للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خفاءً (١) وتدقيقًا وتفاوتًا في قبول الناس له، أو مكابرة في الاعتقاد، فيُصارُ إلى الإقناعيات والتمثيلات والمسلمات، لتمكن معارضةُ الخصم الألدِّ، وإيقاظُ الغالط الغافل. ولذلك كان الخطيبُ في حاجة إلى معرفة محاسن الأشياء وأضدادها، ليتوسل بذلك إلى مناقضة ضالٍّ مرَوِّج، أو إرشاد جهل غير متيقن.

وحسبُك من منفعةِ الخطابة أن الله تعالى شرع لنا الخطبةَ عند كلِّ اجتماعٍ مهم من جمعةٍ وعيدٍ وحج (٢)، وذلك أن النفوسَ تميلُها طباعُها إلى متابعةِ الشهوات، وتتجهم الاتباعَ لمقتضى الأخلاق الفاضلة، فإذا لم تتكرر عليها الدعوةُ إلى الفضائل بالخطب غلبت عليها أضدادُ الفضائل والعدالة. وليس كلُّ صنفٍ من أصناف الناس بصالحٍ لتلَقِّي ذلك وحده من مطاوي كتب التهذيب وأوراق الحكمة، ولا كلُّ صالحٍ لذلك بفاعل. فلا جرمَ وجب التذكيرُ عند المجتمعات العامة؛ لأنها تحشر أصنافَ الناس.

ولقد كان الشعرُ أغلبَ على العرب، وكان الشاعر مقدَّمًا عندهم على الخطيب في الجاهلية - كما قال أبو عمرو بن العلاء - "لفرط حاجتهم (حينئذ) إلى الشعر الذي يقيِّد عليهم مآثرَهم، ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم. . . فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعرَ مكسبة، [ورحلوا إلى السوقة]، وتسرعوا إلى


(١) مثل قول سهيل بن عمرو، وكان واقفًا على باب عمر مع جماعة منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وجماعة من وجوه العرب، فخرج إذن عمر إلى أن يدخل بلال وسلمان وعمار، فتمعَّرت وجوهُ البقية، فقال سهيل: "لمِ تتمعَّر وجوهُكم، [وتتغير ألوانُكم ولا ترجعون باللائمة على أنفسكم]؟ دُعينا ودُعوا، فأبطأنا وأسرعوا، ولئن حسدتموهم على باب عمر لَلَّذي أعد الله لهم في الجنة أفضل". - المصنف. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: كتاب العثمانية، تحقيق عبد السلام محمد هارون (بيروت: دار الجيل، ط ١، ١٤١١/ ١٩٩١)، ص ٢١٧. وانظر كذلك: الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر: ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، تحقيق عبد الأمير مهنا (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط ١، ١٤١٢/ ١٩٩٢)، ج ٤، ص ١٣٥.
(٢) أقول: وكذلك خطبة النكاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>