وكذلك أصحابُ الحديث: ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقراء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر.
لكن الذي ينبغي أن يكون المبعوثُ على رأس المائة رجلًا معروفًا، مشهورًا، مشارًا إليه في كل فن من هذه الفنون. فإذا حُمل تأويلُ الحديث على هذا الوجه، كان أولَى وأبعد عن التهمة وأشبه بالحكمة. فإن اختلاف الأئمة رحمة، وتقرير أقوال المجتهدين متعيِّن. فإذا ذهبنا إلى تخصيص القول على أحد المذاهب، وأَوَّلنا الحديثَ عليه، بقيت المذاهبُ الأخرى خارجةً عن احتمال الحديث لها، وكان ذلك طعنًا فيها. فالأحسن والأجدرُ أن يكون ذلك إشارةً إلى حدوث جماعة من الأكابر المشهورين على رأس كل مائة سنة، يجددون للناس دينَهم، ويحفظون مذاهبَهم.
ونحن نذكر الآن المذاهبَ المشهورة في الإسلام التي عليها مدارُ المسلمين في أقطار الأرض، وهي مذهب الشافعي، وأبِي حنيفة، ومالك، وأحمد، ومذهب الإمامية، ومَنْ كان المشار إليه من هؤلاء على رأس كل مائة سنة، وكذلك من كان المشار إليه من باقي الطبقات. وأما مَنْ كان قبل هذه المذاهب المذكورة، فلم يكن الناسُ مجتمعين على مذهب إمام بعينه، ولم يكن قبل ذلك إلا المائة الأولى. وكان على رأسها من أولِي الأمر عمر بن عبد العزيز، ويكفي الأمةَ في هذه المائة وجودُه خاصة؛ فإنه فعل في الإسلام ما ليس بخافٍ.
وكان من الفقهاء بالمدينة: محمد بن علي الباقر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر. وكان بمكة منهم مجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح. وكان باليمن طاووس، وبالشام مكحول، وبالكوفة عامر بن شراحيل الشعبي، وبالبصرة الحسن البصري ومحمد بن سيرين. وأما القراء على رأس المائة الأولى، فكان القائم بها عبد الله بن كثير. وأما المحدثون فمحمد بن شهاب الزهري، وجماعةٌ كثيرة من التابعين وتابعي التابعين.