للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنهم مَنْ تخطر له العناية بجمع شعر أحد الشعراء بعد انقراض عصر ذلك الشاعر، فيذهب يستخلص ما يجده من شعره من أفواه الرواة وأوراق التقاييد والمختارات، ومن كتب اللغة وشواهد النحو والبلاغة. وبمثلها جُمعت دواوينُ شعراء الجاهلية وما قاربها من صدر الإسلام، مثل امرئ القيس وزهير والأعشى وحسّان والشَّمَّاخ. وبمثلها جمع أبو تمام ديوان الحماسة، وأبو الفرج الأصفهاني فيما تضمنه كتاب الأغاني. وهذه الطريقةُ أبعدُ الطرق عن الاستيعاب، وعن المحافظة على ترتيب أبيات القصائد، وعن (١) تحقيق اتحاد الأبيات الكائنة من بحر واحد وقافية واحدة في أنها من قصيدة واحدة.

وطريقةُ جمع شعر بشار كانت مزيجًا من الطريقتين الأولى والثانية؛ فإن عناية الناس بشعر بشار في حياته كانت تغريهم على الاستكثار من حفظه وتقييده. وقد كان له رواةٌ يروون شعره كما أسلفته في المقدمة، وكان مع ذلك فقْدُ بصره مانعًا له من التقييد، فكان يعتمد على حافظته أو على مَنْ يكتب له، كما أن ما في طبعه من الانغماس في اللهو والاستهتار بمحاسن النساء والشراب يصرفه عن شدة اليقظة لحفظِ أوراقه وقماطيره. فلا ريب في أن ذلك كان سببًا قويًّا لتلاشي معظمها، ولكن المحقق أن كثيرًا منها كان محفوظًا في أوراق الناس ومحفوظاتهم. وقد حدثنا الرواةُ لأخباره أنه لمَّا قُتل فُتِّشتْ أوراقُه وتقاييده، ووُجد بها شعرٌ له، ووجد منها بيتان في هجو آل سليمان لم يعرفهما الناسُ في حياته (٢).


(١) في الأصل: على، والصحيح ما أثبتناه.
(٢) والبيتان هما:
دِينَارُ آلِ سُلَيْمَانٍ وَدِرْهَمُهُمْ ... كَالبَابِلَيَّيْنِ حُفَّا بِالعَفَارِيتِ
لَا يُبْصَرَانِ وَلَا يُرْجَى لِقَاؤُهُمَا ... كَمَا سَمِعْتَ بِهَارُوتٍ وَمَارُوتِ
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج ٣، ص ٢٤٩ (نشرة القاهرة)؛ كتاب الأغاني، ج ٣، ص ٧١٩ (نشرة الحسين).

<<  <  ج: ص:  >  >>