للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنا أقول: يحتمل أن يكون انتقاد أدباء بغداد البيت من جهة معناه أو من جهة لفظه، فإن كان الانتقاد من جهة معناه، فبيانه أن مراد الشاعر بالولدان، الولدان المعهودون وهم المذكورون في القرآن: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩)} [الإنسان: ١٩]، وهؤلاء الولدان مقرهم الجنة، فأراد الشاعر أن يثبت كون المتغزل فيه منهم، ويتعجب كيف كان مقره في قلبه الذي هو جحيم، ولكنه لم يُثبت كون المتغزل فيه من الولدان، بل غاية ما أثبته أنه أحسن من الولدان في الطبائع والمحاسن، وإذا كان أحسن فلا يتم له التعجب إذ قد يكون من جنس آخر غير جنس الولدان. هذا حاصل انتقادهم مع توجيهه وتبيينه. وهو عندي انتقاد زائف؛ لأن الشاعر بنى معنى بيته على أن المتغزّل فيه قد فاق الولدان في محاسنه، وذلك يوجب أن يكون أولى بسكنى الجنة من بقية الولدان، لأن الجنة جديرة بمنتهى الحسن إذ فيها ما لا عين رأت، ولذلك استقام له التعجب من حلوله في جهنم القلب.

وذلك كله إغراق في التخيل من ثلاثة جهات: كون الموصوف أحلى شمائل من الولدان، وكون ذلك موجبًا سكناه الجنة، وهذان معنيان عزيزان، وكون قلب المحبّ جهنم، وهذا معنى قديم شائع، ولكنه أخرجه إلى العزّة ما اقترن به من التعجب، كما أخرجه في نظيره قول بعض الشعراء فيمن اسمه إبراهيم على طريقة التلميح:

فَيَا نِيرَانَهُ كُونِي سَلَامًا ... وَبَرْدًا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ (١)


(١) البيت هو الثاني من بيتين ذكرهما بهاء الدين العاملي في الكشكول، وهما:
عَجِبْتُ لِنَارِ قَلْبِي كَيْفَ تَبْقَى ... حَرَارَتُهَا وَحُبُّكَ يَحْتَوِيهِ
فَيَا نِيرَانَهُ كُونِي سَلَامًا ... وَبَرْدًا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ
العاملي، بهاء الدين محمد بن حسين: كتاب الكشكول وبهامشه كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي (مصر المحروسة: المطبعة الميمنية، ١٣٠٥ هـ)، ص ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>