ثم عرض ما أنضب معينَها، فصار طالبُ العلم يشد الرحالَ إلى المعهد الزيتوني، فيتجشم عرقَ القربة ويذوق مرأرة المشقة والغربة. وربما ضاق صبره عن إدامة العيش في غير بلاده، فاضطر إلى القعود آيسًا من نوال مراده، وليس الإعراض عن النافع حين يعسر به الانتفاع بمحمود لدى أهل الرأي والاضطلاع. لذلك كنتُ نظرت في أول ما سعيتُ إليه من النظم أيام قيامي بخطة نائب عن الدولة، فرأيت من أعظم المصالح العلمية تنظيمَ التعليم بفروع من الإيالة، وسعيتُ في ذلك سعيًا أثمر الترتيب المؤرخ بالثاني عشر من شعبان عام واحد وثلاثين وثلاثمائة وألف، وهو الترتيب الذي غُرست به نواةُ التعليم الإسلامي المضبوط في المدن الخمس. غير أنه لم يلاق من الإقبال عليه ما يقيم عماده، ويشد أوتاده، لأسباب كان فيها للمدرس بعضُ العذر، وللتلميذ عذرُ الخشية من إضاعة العمر.
ولما وقع الالتفاتُ إلى تحسين حالة المدرسين تحسينًا يوجبُ انصرافَ هممهم إلى العناية بهذا المعهد، والنهوض بما فيه من دروس علوم الدين وعلوم اللغة التي بها نبلغ مرتقى كمالنا في الجامعة الإسلامية والعلوم التي بها النجاح في تبوُّؤ المكان الأسمى من الحياة الاجتماعية، رأيتُ أن أقوم بالزيارة لهذا المعهد للنظر في أحوال التعليم والأساتذة والمتعلمين والنهوض بها إلى المكان الأسمى بتثقيف أذهان التلامذة بالعلم الراقي والفهم القويم. وقوام ذلك هو تذكير العالمين وإرشاد المتعلمين، وأن توسيع نطاق ذلك لا يحصل إلا بتنشيط الفروع الزيتونية الموجودة، وبالإكثار من فتح فروع حيث لا توجد، وبإقامة نظمها على الاتصال المحكم العرى بمشيخة المركز الزيتوني بطريقة تكفل تمثيل المشيخة بالفروع، وبأن تجري بها المناهج
= من أشهر أساتذته عيسى بن مسكين وله منه إجازة، وأبو بكر اللباد، ومحمد بن عبدوس، وأبو عبد الله محمد بن سهلون. وكان لا يسمع بعالم إلا أتاه وكتب عنه، ولا بصالح إلا قصده وانتفع به. كان الجبنياني ذا زهد وورع، وجرى له ذكر حسن وثناء عظيم عند العلماء كأبي الحسن القابسي وأبي محمد بن أبي زيد القيرواني. جمع أبو القاسم اللبيدي وأبو بكر المالكي الكثير من أخباره وسيرته. توفي أبو إسحاق الجبنياني سنة تسع وستين وثلاثمائة عن عمر يناهز التسعين عاما.