للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمن الحكمة أن يوفَّق بين حالي حاجته وراحته. فكما كانت تلك المعارفُ مغايرةً للعلوم التي يلقنها في برنامج تعليمه، كذلك ينبغي أن تكون وسيلةُ إيصالها إلى ذهنه مغايرةً للوسائل المعتادة، حتى يحصل استجدادُ نشاط ذهنه باختلاف الأساليب من غير حرجٍ عليه في ذلك ولا تثريب، فإن لاختلاف الأساليب تجديدًا لإقبال النفس على مزاولة الأشياء المتكررة.

ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخول أصحابه بالموعظة خشيةَ السآمة عليهم (١)، واقتداء بتلك السنة كان عبد الله بن عباس إذا أفاض في القرآن والتفسير طويلًا وخاف عليهم الملالَ يقول لأصحابه عقب ذلك: "أحمِضوا"، يريد خُذوا في مُلح الكلام والأخبار (٢). ومعنى تلك الاستعارة أن الإحماض هو أن ترعى الإبلُ الحمض، وهو النبتُ الذي فيه ملوحةٌ وحموضةٌ بعد أن كانت ترعى الخلة - وهي الحلو من النبت - تحب أن تخالف الطعم تجديدًا لشهوة المرعى. ولعلكم تذكرون تلك النكتةَ التي وجَّه بها علماءُ البلاغة أسلوبَ الالتفات في كلام العرب، فمثلوه بحسن القِرى إذا يخالف المضيفُ لضيوفه بين ألوان الطعام، وكما كان اختلافُ الألوان من قرى الأشباح، كذلك يكون اختلاف الأساليب من قرى الأرواح (٣).


(١) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراة السآمة علينا". صحيح البخاري، "كتاب العلم"، الحديث ٦٨، ص ١٧ (وانظر كذلك الحديث ٧٠). وأخرج مسلم عن شقيق البلخي عن أبي وائل قال: "كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الله إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم. فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهيةُ أم أُملكم. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا". صحيح مسلم، "كتاب صفة القيامة والجنة والنار"، الحديث ٨٣، ص ١٠٨٦.
(٢) ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم: غريب الحديث، تحقيق عبد الله الجبوري (بغداد: إدارة إحياء التراث الإسلامي بوزارة الأوقاف، ١٩٧٧)، ج ٢، ص ٣٦٦.
(٣) قال السكاكي في بيان معنى الالتفات ووظائفه وفوائده: "واعلم أن هذا النوع - أعني نقلَ الكلام عن الحكاية إلى الغيبة - لا يختص المسند إليه، ولا هذا القدر، بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها يُنقل كلُّ واحدٍ منها على الآخر. ويسمى هذا النقلُ التفاتًا عند علماء علم المعاني، والعربُ يستكثرون منه، ويرون الكلامَ إذا انتقل من أسلوبٍ إلى أسلوب أدخلَ في القبول عند السامع، =

<<  <  ج: ص:  >  >>