للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انقسمت اللذاتُ بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية وعقلية ومركبة منهما. والنظر في التقسيم إلى الداعي والحاصل جميعًا: فإن كان الداعي الحس وهو الذي تحصل به، فهي الحسية. وإن كان العقل، فهي العقلية. وإن كان الداعي العقل وتحصل بالحس، فهي المركبة. (١)

أما الحسية فأمرها خطير، ومطالبها محدودة، يسهل استيفاء ما تقتضيه في الإمكان. (٢) ومتى قضى الحسُّ منها شيئًا، كان الزائدُ عليه عنده ألمًا. وأما العقلية، فهي حركة الفكر في المعقولات التي تطمح إليها النفس، وشعوره بالحقائق التي يجد عند الشعور بها مسرةً لا يعدلها عنده شيء، وهذه يجدها العقل طوعه، متى بالغ في البحث وجدها منطاعة لا تقف به عند حد.

أما إن أردتم التعبَ الشديد والمشقةَ في السرور، فاطلبوا قسمَنا الثالث من أقسام اللذة، أعني ما تطلبه النفس ويقتضيه البدن، تجدوا خرطَ القتاد دونه سهلًا، ويفرضه في المحبة الحبُّ العشقي؛ فإن الروح إن تعلقت به لقيت في سيرها من المكدِّرات ما يمرر حلاوة منالها منه، إذا كانت مطالبُ الروح غيرَ واقفة عند مدى، فإن سلطان وهم المحبة يتسلط عليها فيناجيها أن تطمع باتحاد الروحين، وأن تروم المقارنة الدائمة، والرِّضا الأبدي.

وهكذا يغادرها تستهتر بأماني لا يتناهى غرامُها، ولا يبرد أُوارُها، ولكنها تجد طريقَ الاقتضاء هذا البدنَ القادر في مبدئه، العاجز في غايته، الذي تسئمه المداومة، وتعوقه الموانع؛ فماذا عساه حقق من مطالب هاته الروح؟ وكم ذا يمكنها أن تقضي من استخدامه؟ لا شك أنها سيكون لها مثلًا في هذه الحال قولُ أبي الطيب:


(١) أما القسم الرابع في التقسيم العقلي، فهو مهمل لعدم وجود لذة يدعو لها الحس وتحصل بالعقل إلا المحبة الأفلاطونية على تعذر أو ندرة فيها. - المصنف.
(٢) قلنا في الإمكان لأن أمر تحصيلها ممكن ولكنه ربما لم يكن موجودًا، وأشرنا إلى ما يأتِي من أن المطالب النفسية منها ما يتعذر تحصيله فهو غير ممكن أبدا. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>