للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حُكِيَ أن الناصر لدين الله - ملك قرطبة - كتب بخطه أنه لم يَصْفُ له من زمان حكمه على ذلك البلد الطيب في ذلك السلطان القاهر الذي دام خمسين سنة إلا ساعات، تلفق من جميعها مقدارُ أربعة عشر يومًا. لذلك قال الأسطوانيون (١) من الفلاسفة: "إن الدنيا دارُ شقاء وبلاء".

دعْ عنك هذا، ووَلِّ وجهَك شطرَ اللذات الروحية والكمالات العقلية تجدِ المرء متى التذَّ بشيء منها لا يقف عند منتهى، فهو كلَّ الزمان مبتهجٌ بما يعلمه من العلوم ويستفيده من الآداب. تذكرة، وتُزوَى له. وهذا حال الحكيم: فهو دائمًا ينظر نفسه فيستفيد علومًا، ويلمح العالم فيزداد الدنيا فلا تهزه، وهو مسرور بإقبالها، وتدبر عنه وهو مسرور بما يعلم من إخلافها. ربما نام ليلةً وهو يرصد طلوعَ الصباح للرجوع إلى لذة التفكير التي قطعها عنه النوم، فإن حاول أمرًا، أو تم له، فلا تسلْ عن لذته منه، وإن لم يتم فقد حَصَّل - في الأقل - معرفةَ طريقٍ لا يهدي إليه. ومتى أَلَمَّ به ضرر من مصاب، استهون به في فائدة التجربة، كما يرى العالِمَ النحرير فيسره مرآه لما ينال من علمه، كذلك يرى الأحمقَ الجاهل فيعلمه، وبالأقل يأخذ الحكمةَ من حاله بطريق الحضارة، فرب خطأ جرَّ إلى صواب.

إذن فالحكيم لا يتنكد أبدًا، وهو مسرورٌ في كل وقت. وسببُ ذلك علمُه بحقيقة كل شيء؛ لأنَّ هاته الدنيا وإن كانت خضرة حلوة، فإنها تعقب تفاهةً أو


= وَمَا فِي الخلقِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ... وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلِّ حِينٍ ... مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوقًا إِلَيْهِمْ ... وَيبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّنَائِي ... وَتَسْخُنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي
المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج ٣، ص ١٣٣٩ (الحماسية ٥٤٠).
(١) هم أصحاب زينون [zeno] الفيلسوف اليوناني الزاهد المولود سنة ٤٩٠ قبل المسيح، وهو الذي لما مات بأثينا صاغوا له تاجًا من الذهب وضعوه عل قبره، تنويهًا بقدره. وقال بعضُ خطبائهم في ذلك: "ليعلم أن أهل أثينا يكرمون أهلَ الفضل أحياءً وَأمواتًا. أما كلمة الأسطوانيين، فالتحقيق أنها مأخوذة من اليونانية. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>