وبرغم هذا ونحوه، فقد رأينا تهافتَ كثيرٍ من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن. فمنهم مَنْ يتصدى لبيان معاني الآيات على طريقة كتب التفسير، ومنهم مَنْ يضع الآيةَ ثم يركُض في مجالات من أساليب المقالات، تاركًا معنى الآية جانبًا، جالبًا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبًا.
وقد دلت شواهدُ الحال على ضعف كفاءة البعض لهذا العمل العلمي الجليل، فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدَّى طورَه، وأن يردَّ الأشياء إلى أربابها، ويأتِيَ البيوت من أبوابها. وعلى مَنْ لا يأنس من نفسه الكفاءة - وهو يرغب في إفادة العموم بمعاني القرآن - أن يقتصر على نقل كلام المفسِّرين في التفاسير المشتهرة، عازيًا ذلك إلى مواقعه، مع التحفظ على عباراته.
وفي الناس طبقةٌ ترتقي كفاءتُها إلى درجةٍ تُخوِّلها التصرفَ في جمع كلام المفسِّرين وترتيبه واختصاره. والواجبُ على كل راغبٍ في التحلي بذلك أن يدققَ النظرَ في ميزان نفسه ليقفَ عند الحد الذي يثق به عندها، حتى لا يختلطَ الخاثرُ بالزباد، ولا يكونَ كحاطبٍ في حالكِ سواد. وبذلك تحصل الفائدة، والاستبراء للدين والعرض.
وإن سكوتَ العلماء على ذلك زيادةٌ في الورطة، وإفحاشٌ لأهل هذه الغلطة. فمَنْ يركب متنَ عمياء ويخبط خبطَ عشواء، فحق على أساطين العلم تقويمُ اعوجاجه، وتمييزُ حُلوه من أُجاجه، تحذيرًا للمطالع، وتنزيلًا في البرج والطالع.
= ١٤٢٧/ ٢٠٠٦)، ج ١، ص ٥٧ - ٥٨. وقد أحال القرطبي في ذلك على ابن عطية، انظر: ابن عطية الأندلسي، أبو محمد عبد الحق بن غالب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٤٢٢/ ٢٠٠١)، ج ١، ص ٤١.