للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الناس مَنْ قال: الأصلُ في الناس العدالة، وقبلوا مستورَ الظاهر وإن جُهل باطنُه. وإلى هذا ذهب الأقلُّ، منهم أبو حنيفة، وابن فورك ومسلم الرازي من الشافعية. ولكن إذا ظهر موجِبُ الجرح بطل الخلاف. (١)

وفي الناس متساهلون يظنون الخير، ويتلقون الأخبار عن كل مسلم، إلى أن بلغ الحالُ ببعضهم أن عد تمحيصَ الرواة من قبيل الغيبة فأنكره على ابن معين قائلُهم:

وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرِّجَالِ مقالةٌ ... سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالإلَهُ شَهِيدُ

إِنْ كَانَ حَقًّا قَوْلُهُ فَهْوُ غِيبَةٌ .... وَإِنْ كَانَ زُورًا فَالْعِقَابُ شَدِيدُ (٢)

وطريقةُ إمامنا مالك ونظرائه - أئمة النقد - هي الطريقةُ المثلى، وعليها كانت سنتُه في تهذيب كتاب الموطأ عامًا فعامًا. وقد قال ابن أبي حاتم: "قلت ليحيى بن معين: لماذا مالك قل حديثُه؟ فقال: لكثرة تمييزه". (٣) وقد كان يأتي في ذلك بتشديد


(١) انظر تفصيل القول في ذلك في: الشهرزوري: علوم الحديث، ص ١٠٥ - ١٠٩.
(٢) روى الخطيب البغدادي عن "عبد العزيز بن أبي الحسن قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال: أنشدني الحسن بن علي الباغاني من أهل المغرب قال: أنشدنِي بكر بن حماد الشاعر المغربي لنفسه:
أَرَى الْخَيْرَ فِي الدُّنْيَا يَقِلُّ كَثِيرُهُ ... وَيَنْقُصُ نَقْصًا وَالْحَدِيثُ يَزِيدُ
فَلَوْ كَانَ خَيْرًا كَانَ كَالْخَيْرِ كُلِّهِ ... وَلَكِنَّ شَيْطَانَ الْحَدِيثِ مُرِيدُ
وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرِّجَالِ مقالةٌ ... سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالمَلِيكُ شَهِيدُ
فَإِنْ تَكُ حَقًّا فَهْيَ فِي الْحُكْمِ غِيبَةٌ ... وَإِنْ تَكُ زُورًا فَالْقِصَاصُ شَدِيدُ".
الكفاية في علم الرواية، ص ٣٨. وأورد الفخر الرازي البيتين الأخيرين بلفظ مختلف قليلًا ودون نسبة إلى مُعَيَّن، وساق في ذلك حكايةً مدارها طعن ابن معين في الشافعي واتهامه بالتشيع بسبب ما كتبه في قتال أهل البغي معوِّلًا في الاحتجاج له على كلام علي بن أبي طالب، الأمر الذي حدا ببعض مؤيدي الشافعي - كما تقول الحكاية - إلى إنشاد البيتين المذكورين. الرازي، فخر الدين محمد بن عمر: مناقب الإمام الشافعي، تحقيق أحمد حجازي السقا (بيروت: دار الجيل، ط ١، ١٤١٣/ ١٩٩٣)، ص ١٣٣.
(٣) الزركشي: النكت على مقدمة ابن الصلاح، ج ٣، ص ٣٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>