للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لوجهين: أحدهما اعتبارُ رشاقة المعنى؛ فإن الكناية تنبني على صحة إرادة المعنى الصريح، وذلك أصلُ الفرق بينها وبين المجاز المرسَل الذي علاقتُه اللزوم. فقولُهم: "طويل النجاد" لا يفهم منه السامعُ إلا أن له نجادًا طويلًا، وأن ذلك يلزمه طولُ القامة، وأن المتكلم ما أراد إلا الإخبارَ عن طول القامة. فالسامع يظن أنه طويلُ النجاد حقيقة، وكذلك جبانُ الكلب ومهزولُ الفصيل. (١) ألا ترى أن قول عنترة:

فشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحَرَّمِ (٢)

لا يفهم منه السامعُ إلا أن الشاعرَ شبك بالرمح جسدَ العدوِّ بأنه لا يشك ثيابه بالرمح لقصده تخريق ثيابه، بل إنما أراد أنه شكَّ جسده. ولما كان شكُّ الجسد لا يكون إلا مع شكِّ الثياب، صح التكني عنه بشك الثياب، والمقصود شكُّ الجسد، أي طعنه، وهنا لا يحصل المعنى الكنائي إلا مع المعنى الأصلي. وقد يكون المتحدَّث عنه لا نجادَ له ولا كلبَ له ولا فصيل، إلا أن ذلك أمرٌ قلما يعلمه السامع.

وأما الآية فلا يصح فيها إرادةُ المعنى الأصلي، لما هو معلومٌ لكل مؤمن من استحالةِ جلوس الرحمن على العرش، فلا يصح التكنِّي به عن معنى الملك المقصود من الآية. ولا يُغْنِي عن ذلك قولُ صاحب الكشاف: "وإن كان لم يقعد على السرير


(١) عبارتا "جبانُ الكلب" و"مهزولُ الفصيل" تقالان كناية عن الكريم المضياف. ومعنى العبارة الأولى أن كلبه لا ينبح على القادمين إلى بيته لكثرتهم واعتياد الكلب عليهم. أما الثانية فمعناها أن الفصيل (القعود أو ابن الناقة) عند الموصوف بها يهزل، إذ إن أمه قد نُحرت للأضياف فلا يجد مرضعة له. وتطلق العبارتان لإفادة المعنى المذكور حتى ولو لم يكن الموصوفُ بهما مِمَّنْ يتخذ الكلابَ أو الإبل. وفي هذا المعنى أنشد حسان بن ثابت - رضي الله عنه -:
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ ... لا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ المُقبِلِ
ديوان حسان بن ثابت، تحقيق وليد عرفات (بيروت: دار صادر، ٢٠٠٦)، ج ١، ص ٧٤.
(٢) وفي رواية "كمَّشت"، والبيت من المعلقة. ديوان عنترة، تحقيق ودراسة محمد سعيد مولوي (بيروت: المكتب الإسلامي، بدون تاريخ)، ص ٢١٠؛ القرشي، أبو زيد محمد بن أبي الخطاب: جمهرة أشعار العرب، نشرة بعناية علي فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ٣، ١٤٢٤/ ٢٠٠٣)، ص ٢١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>