ومن المناسب هنا أن نسوق ما قرره ابن حزم بعد أن ذكر وردَّ أقوال أصحاب الفرق في فهم معنى الاستواء في الآية، حيث قال: "والقول الرابع في معنى الاستواء هو أن معنى قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)}: أنه فعلٌ فعله في العرش وهو انتهاء خلقه إليه، فليس بعد العرش شيء، ويبين ذلك أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنات وقال: فاسألوا الله الفردوس الأعلى، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوق ذلك عرش الرحمن، فصح أنه ليس وراء العرش خلق، وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ولا ملاء. ومن أنكر أن يكون للعالم نهاية من المساحة والزمان أو من جرمه، فلقد لحق بقوله الدهرية، وفارق الإسلام. والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: ١٤]، أي فلما انتهى إلى القوة والخير. وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: ١١]، أي أن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن رتب الأرض على ما هي عليه". ثم قال: "وهذا هو الحق، وبه نقول لصحة البرهان به وبطلان ما عداه. فأما القول الثالث في المكان، فهو أن الله تعالى لا في مكان ولا في زمان أصلًا، وهو قول الجمهور من أهل السنة، وبه نقول، وهو الذي لا يجوز غيره لبطلان ما عداه، ولقوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)} [فصلت: ٥٤]. فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان؛ إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطًا به من جهة ما من الجهات. وهذا منتف عن الباري تعالى بنص الآية المذكورة، والمكان شيء بلا شك، فلا يجوز أن يكون شيء في مكان ويكون هو محيطًا بمكانه، وهذا محال في العقل يُعلم امتناعه ضرورة. وبالله التوفيق. وأيضًا فإنه لا يكون في مكان إلا ما كان جسمًا، أو عرضًا في جسم. هذا الذي يجوز سواه، ولا يتشكل في العقل والوهم غيره ألبتة. فإذا انتفى أن يكون الله عز وجل جسمًا أو عرضًا، فقد انتفى أن يكون في مكان أصلًا". ابن حزم الأندلسي، أبو محمد علي بن أحمد: الفصل في الملل والأهواء والنحل، نشرة بعناية أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ٢، ١٤٢٠/ ١٩٩٩)، ج ١، ص ٣٨٢ - ٣٨٤.