"والآية صريحة في أن هذه الأنواع الثلاثة أنواع لكلام الله الذي يخاطب به عباده. وذكر النوعين الأول والثالث صريح في أن إضافة الكلام المنوع إليهما إلى الله أو إسناده إليه حيثما وقع في ألفاظ الشريعة نحو قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: ٦]، وقوله: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: ١٤٤]، وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤)} [النساء: ١٦٤] , يدل على أنه كلام له خصوصية هي أنه أوجده الله إيجادًا بخرق العادة ليكون بذلك دليلًا على أن مدلول ألفاظه مراد لله تعالى ومقصود له، كما سُمي الروح الذي تكون منه عيسى روحَ الله لأنه تكون على سبيل خرق العادة. فالله خلق الكلامَ الذي يدل على مراده خلقًا غيرَ جار على سنة الله في تكوين الكلام ليعلم الناس أن الله أراد إعلامَهم بأنه أراد مدلولات ذلك الكلام بآية أنه خرق فيه عادة إيجاد الكلام، فكان إيجادًا غير متولِّد من علل وأسباب عادية، فهو كإيجاد السماوات والأرض وإيجاد آدم في أنه غير متولِّد من علل وأسباب فطرية. واعلم أن حقيقة الإلهية لا تقتضي لذاتها أن يكون الله متكلمًا، كما تقتضي أنه واحد، حي، عالم، قدير، مريد. ومَنْ حاول جعلَ صفة الكلام من مقتضى الإلهية على تنظير الإله بالملِك، بناءً على أن الْمُلكَ يقتضي مخاطبةَ الرعايا بما يريد الملِكُ منهم، فقد جاء بحجة خطابية. بل الحق أن الذي اقتضى إثباتَ كلام الله هو وضعُ الشرائع الإلهية، أي تعلق إرادة الله بإرشاد الناس إلى اجتناب ما يخل باستقامة شؤونهم بأمرهم ونهيهم وموعظتهم ووعدهم ووعيدهم من يوم نهى آدم عن الأكل من الشجرة، وتوعده بالشقاء إن أكل منها، ثم من إرسال الرسل إلى الناس وتبليغهم إياهم أمر الله ونهيه بوضع الشرائع. . . ولَمَّا لم يرد في الكتاب والسنة وصفُ الله بأنه متكلم، ولا إثباتُ صفةٍ له تُسَمَّى الكلام، ولم تقتض ذلك حقيقةُ الإلهية، ما كان ثمة داع إلى إثبات ذلك عند أهل التأويل من الخلف من أشعرية وماتريدية". تفسير التحرير والتنوير، ج ٢٥، ص ١٤٠ - ١٥٠.