للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن تلك الأنحاء ما هو تذكر للحالة التي فارق عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدنيا، وخشيتهم أن يكون تغير حالهم إلى الرفاهية يبعد بهم عن مقامات الكمال التي ألفوها من أفضل الناس. ومن هذا النحو حديث عبد الرحمن بن عوف وحديث عائشة اللذين تقدما في طالع هذه المحاضرة.

ومن تلك الأنحاء نحو قصد بأهله تذكير المسلمين بنعمة الله ببسط الرزق لهم، إذ كانت مراتبهم في التعلق بالدنيا لم تبلغ مراتب أصحاب رسول الله بله رسول الله نفسه - صلى الله عليه وسلم -، أو قصدوا به موعظة أنفسهم، أو تذكر نعم الله عليهم. ومن هذا النحو حديث النعمان بن بشير المتقدم: "ألستم في طعام وشراب ما شئتم، لقد رأيت نبيكم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه". (١)

ومنه حديث أبي هريرة أنه تمخط في ثوب ممشق من كتان ثم قال: "بخ بخ، يتمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما منبر رسول الله وحجرة عائشة فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنونًا وما بي جنون وما هو إلا الجوع". (٢)

وربما عرضت لبعض الناس حين المرور على هذه الآثار من السيرة النبوية انفعالات شفقة، فذلك ناشئ عن قلة تدبر في حال زهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن اشتباه لهم في مراقي روحه الزكية في معارج الكمال والإعراض عن الحظوظ العاجلة، فيخالونها حرمانًا أو نحوه تخيلًا مثله لهم ما ألفوه في إحساس عامة الناس من


(١) صحيح مسلم، "كتاب الزهد والرقائق"، الحديث ٢٩٧٧، ص ١١٣٨؛ سنن الترمذي، "كتاب الزهد"، الحديث ٢٣٧٣، ص ٥٦٥.
(٢) عن محمد بن سيرين قال: "كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في أحدهما ثم قال بخ بخ يتمخط أبو هريرة في الكتان، لقد، رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحجرة عائشة من الجوع مغشيًا علي فيجيئ الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما بي جنون وما هو إلا الجوع". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب". سنن الترمذي، "كتاب الزهد"، الحديث ٢٣٦٧، ص ٥٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>