للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: ٧٧]. كان ورقة بن نوفل القرشي المتنصِّر في الجاهلية قد توسَّم من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَخرُج أو يُخرَج من وطنه، ففي صحيح البخاري أن رسول الله لَمَّا ذهب إليه بإشارة خديجة رضي الله عنها وقصَّ عليه رؤيةَ الملك ونزول الوحي عليه في غار حراء، قال له ورقة: "هذا الناموس الذي أُنزل على موسى، يا ليتني فيها جَذعٌ، يا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومُك! فقال رسول الله: "أَوَمُخرِجِيَّ هم؟ " قال (ورقة): نعم، لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركْني يومُك أَنصرْك نصرًا مؤزرًا". (١)

كان خروجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نبذًا منه لأهل الشرك، وسخطًا عليهم، وتنزيهًا للدين عن البقاء بين أظهرهم، وإيذانًا لسائر الناس بأنَّ أمرَ هذا الدين ليس بالأمر الهين؛ فإن الدعوة بالفعل مع القول أشدُّ نفوذًا إلى النفوس من مجرد القول، بحيث صارت الدعوةُ الإسلامية حادثًا مشاهدًا ومتحدَّثًا به بعد أن كانت مسموعةً لا غير. ولذلك سُمِّي هذا الخروجُ هجرةً، مشتقة من الهجر، وهو قَطع المعاشرة. ولقد كانت بإذن الله له بذلك حين تهيأت الأسباب التي أرادها الله تعالى، كما أنبأ به حدثُ الهجرة في الصحيح أن رسول الله قال لأبي بكر: "إن الله قد أذن لِي في الخروج والهجرة". (٢)

لم يكن ذلك الخروج فرارًا وخشية من المشركين؛ لأن الله الذي عصمه منهم ثلاث عشرة سنة وهم يؤذونه بالقول ولا يقدمون على إلحاق الضرر به قادرٌ على إكمال عصمته منهم، وخاصة بعد أن كثر أتباعه، واعتزوا بأقويائهم مثل عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب. وقد علم رسول الله أنه إذا خرج من بين قومه يعدون خروجه


(١) صحيح البخاري، "كتاب بدء الوحي"، الحديث ٣، ص ٢؛ صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث ١٦٠، ص ٧٧؛ ابن هشام: السيرة النبوية، ج ١/ ١، ص ١٩١. واللفظ للبخاري.
(٢) ابن هشام: السيرة النبوية، ج ١/ ٢، ص ٩٧؛ صحيح البخاري، "كتاب مناقب الأنصار"، الحديث ٣٩٠٥، ص ٦٥٧. واللفظ لابن إسحاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>