للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ إن أسْمى غايةٍ يفارق المرءُ لأجلها وطنَه، وأقوى سببٍ يَحْدُث عنه الشقاقُ بين المرء وذويه، هو الذبُّ عن الاعتقاد إذا بلغ عنادُ المخالفين فيه إلى حدِّ تحجير إظهاره والمضايقة فيه، ومحاولة الإرغام على تركه، والتظاهر بما يخالفه. وإن المرء ليضجر لو أُغمضت عيناه أو سُدت أذناه وما هما إلا بعضُ مظاهر إدراكه، فكيف به إذا سُدَّ عليه قلبُه وعقلُه ورأيُه؟

وإن أسمى العقائد وأقدسَ الآراء عقيدةُ الدين لتعلقها بأشرف الموجودات، ولتجردها عن الغايات المادية والمنافع العاجلة التي تلائم هناءَ المرء في عيشه ومسالمة دهماء قومه إياه. فالاعتقاد الديني اعتقادٌ محبوب لأجل كونه حقًّا بحتًا، ولأجل كونه يرضي خالقَ الخلق.

وقد كانت الهجرةُ قي الله للتمكن من تبليغ شرائعه، وكان الأذى في الله لأجل ذلك سنةً من سنن المرسلين، فما من رسول إلا وقد أوذي في الله، وكذلك كثيرٌ من أصحاب الرُّسل أوذوا وهاجروا معهم وبدونهم. ولما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - واتبعه مَنِ اتبعه من قريش وتكاثروا، وحاولوا إظهارَ دينهم بين مشركي أهل مكة، لم يرض المشركون بذلك، وكشَّروا للمسلمين عن أنياب العدوان، وأخذوا يؤذون المسلمين بصنوف من الأذى كانت تزداد يومًا فيومًا بمقدار رسوخ المسلمين في الاستمساك بدينهم.

وكان المسلمون صابرين على أذى المشركين، حتى إذا بلغ الصبرُ غايته أذن رسولُ الله في سنة خمس لطائفة من المؤمنين المستضعفين والمقصودين بخاصة الأذى بالخروج من مكة. ولم يخرج رسول الله حينئذ؛ لأنه في منعة بعمِّه أبي طالب، فقال لأصحابه: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه". (١) فخرج من المسلمين يومئذ ثلاثة وثمانون رجلًا


(١) قال ابن إسحاق: "فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء. وما هو فيه من العافية. بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء. قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله =

<<  <  ج: ص:  >  >>