للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدْرِه في النفوس ونفوذُ أمره في الملأ محتاجًا إلى معونةٍ بوسيلة من الوسائل المكمِّلة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافيًا في نفوذ آثاره في قلوب أتباعه؛ إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتية؛ إذ لا نقص في تأثير نفسه.

من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييدَ بأوضح الدلائل، وأغناه عن العوارض التي تصطادُ النفوس، وتسترهبُ العيون؛ حتى لا يكون شأنه جاريًا على الشؤون المألوفة. ولعل هذا مِمَّا يُلَوِّح إليه قولُه تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩]، أي هذه دعوةُ الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلم؛ فيكون هذا من المعجزات الخفية (١) التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.

الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاة، حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له ما بَهَرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح إذ قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: ٢٧]. وهذا معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُيرت بين أن أكون نبيًّا عبدًا أو نبيًّا ملكًا، فاخترت أن أكون نبيًّا عبدًا". (٢)

الحكمة الثالثة: أن يحصل له مع ذلك أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائه؛ فيكون فيه دليلٌ على أن جلالَه مستمَدٌّ من عناية الله تعالى وتأييده. روى


(١) راجع مقال "المعجزات الخفية للحضرة النبوية" وقد سبق من قبل هذا بمقالين.
(٢) الهيثمي: بغية الرائد، "كتاب المناقب"، الحديث ١٥١٣٠، ج ٩، ص ٣٠٧ - ٣٠٨. قال الهيثمي: "رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجالُ البزار ثقات".

<<  <  ج: ص:  >  >>