كما يحصل بالتخلق والتحلي، يحصل بالتجرد والتخلِّي. ولذلك قال رسول الله:"إنما أنا آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد". (١)
الحكمة الخامسة: أن مجلسَ رسول الله هو مصدر الدين الموسوم ببساطة الفطرة؛ فكان من المناسب أن تكون هيئةُ ذلك المصدرِ على بساطة الفطرة؛ ليحصل التماثلُ بين الحالِّ والمحل، ولتكون أحوالُ الرسول مظاهرَ كمالٍ ماثلةً لجميع الأجيال على اختلاف المدارك والأذواق؛ ليكون التاريخُ شاهدًا على ما لرسول الله من الكمال الحق، الذي لا تختلف فيه مداركُ الخلق. فإن الفخامةَ وإن كانت تبهر الدهماء، فالبساطة تُبهج نفوسَ الحكماء، وإن بينها وبين ناموس الفطرة أشدَّ انتماء.
إن مَنْ مارس الحديث والسيرة لا يَشُكُّ في أن مجلس رسول الله الذي يلتف حوله فيه أصحابه، وتجري فيه معظمُ أعماله في شؤون المسلمين، إنما كان بمسجده، وأن ما عداه من الأمكنة التي ورد في الآثار حلولُه فيها إنما هي مقاعدُ كان يحل فيها قبل البعثة، وبعدها قبل الهجرة، وبعدها قبل أن ينتظم أمرُ المسلمين، أو بعد ذلك فيما بعد الهجرة؛ لعوارض تعرض: من زيارة، أو ضيافة، أو عيادة، أو قضاء مصالح، أو نحو ذلك.
فقد جلس قبل البعثة وهو بمكة في دار ابن جُدعان، وفي المسجد الحرام، وآوى إلى غار حراء يَتَحَنَّث بإلهام من الله تعالى استئناسًا بالوحي، وجلس بعد البعثة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي شعب أبِي طالب مدة القطيعة، وسكن دارَ أبي أيوب الأنصاري عند مقدمه المدينة، وجلس بمسجد قباء قبل بناء المسجد النبوي، ولم يلبث أن بنى مسجده. فكان مجلسُه بَعْدُ في ذلك المسجد فيما عدا أحوالًا تعرض، مثل خروجه إلى بني عمرو بن عوف للإصلاح بينهم.
(١) المناوي: فيض القدير، الحديث ٢٥٨١، ج ٢، ص ٥٧١. ذكر السيوطي أنه أخرجه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" عن أنس - رضي الله عنه -، ورمز إلى ضعفه. وزاد المناوي أنه كذلك عند الديلمي وابن أبي شيبة، ثم قال: "وسنده ضعيف".