للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن الله تعالى حين خلقهم على أحسن تقويم قد أراد أن يكونوا متصفين بكل وصف قويم. (١) وإنما يتضح كمالُ هذا التمدن إذا كان مظهرُ هؤلاء المتحدين كاملًا، ولا يكمل مظهرُهم إلا بكمال أفرادهم، فإذا كمُلتْ أفرادُهم كمُلَ المجتمعُ المتركِّب منهم؛ لأن المركَّبَ من الصالِحِ صالح. فليس المرادُ بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع؛ إذ قد ينتظم حالُ النوع انتظامًا ما - أي في الجملة - بمجرد صلاح قليل، فيسلم من الهلاك، ويعيش عيشًا بسيطًا، ولكنه لا يكون على حالة ملائمة لحال التقويم الجبلي الذي خلق عليه. (٢)

أودع خالقُ النوع سبحانه في جِبِلَّة أفراده عقلًا يهديهم إلى إيجاد وسائل قليلة لحفظ النوع كما قدمنا، ولكنه لمَّا علم أن ذلك غيرُ كاف في العروج بهم إلى معارج الكمال التي أُعدوا لها، ولا في الخروج عن مآزق قد يلقون أنفسهم فيها، قيض الله دعاةً يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم مواقعَ الردى، وهم العارفون.

فمنهم أنبياء تولى الحقُّ إرشادَهم إلى ما فيه صلاحُ قومِهم، ومنهم حكماءُ خصَّهم الله بعقول تفوق عقولَ عامة أقوامهم، وخصَّ الفريقَيْنِ بِجلائل الصفات النافعة في إيصال الإصلاح إلى البشر، غير مشوب ولا مؤرب. (٣)


(١) الإشارة هنا إلى مثل قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)} [التين: ١ - ٨]. وانظر في تفصيل هذه المعاني: الراغب الأصفهاني، أبو الحسين القاسم بن المفضل: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، تحقيق عبد المجيد النجار (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط ١، ١٤٠٨/ ١٩٨٨)، ص ٧٢ - ١٨١.
(٢) راجع للمصنف مزيدَ تفصيل في هذا المعنى في: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص ٢٥١ - ٣٢٨؛ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص ١٦٩ - ٢٣٠.
(٣) لم أهتد على وجه اليقين إلى أصل اشتقاق لفظة "مؤرب"، ولا إلى صيغتها الصرفية. والأقرب أنها من الإرب أو المأرب، وعلى ذلك يكون مراده أنه خالص لا يداخله ريبة، أو شيء من المآرب الخاصة الدنيوية. ولعل الصواب أن قوله: ولا مُؤَرَّب، أي: تامًا غير مقطع، أي: مجزأ من قولهم: قطعه إربًا إربًا، إذا قطعه عضوًا عضوًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>