للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تحتاج المدينةُ الفاضلة إلى الاستكثار من الأفاضل فيها، حتى تعتضد عزتُهم النفسانية بالعزة الجثمانية، وإن كانت العزة الجثمانية في الدرجة الثانية، كما قال السموأل:

وَمَا ضَرَّنَا أنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ (١)

يريد: ما ضرنا القلةُ إذا كنا أعزاء؛ لأن عزةَ الجار هنا كنايةٌ عن عزة مَنْ أجاره.

ومن أجل هذا قصد الإسلامُ إزواء المؤمنين كلهم إلى المدينة، فكانت الهجرةُ إليها واجبةً على المسلمين الذين يسلمون بمكة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: ٧٢]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨)} [النساء: ٩٧, ٩٨]، إلا من أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - في الالتحاق بأفقه، مثل الأعرابي الذي قال له: "ويلك إن الهجرة شأنُها شديد"، ثم قال له: "اعمل من وراء البحار". (٢) وقد كان الأعراب


(١) ديوان السموأل، ص ٩٠. والبيت من قصيدة من أربعة وعشرين بيتًا في معاني الكرم والعزة والنجدة طالعها:
إِذَا الْمَرْءُ لَم يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ ... فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ
(٢) عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الهجرة، فقال: "ويحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "فتعطي صدقتها؟ "، قال: نعم، قال: "فهل تمنح منها شيئًا؟ "، قال: نعم، قال: "فتحلُبُها يومَ وِرْدِها؟ "، قال: نعم، قال: "فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئًا"". صحيح البخاري، "كتاب الهبة وفضلها"، لحديث ٢٦٣٣، ص ٤٢٥ - ٤٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>