للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لُبانات (١) وقتية، كانت فلتاتٍ عارضةً، ولم تكن عاداتٍ راسخة. وإذا عاودت صاحبَها باضطرار إلى تكرر أسبابها أو بتذوق حلاوة نوالِها، أصبحت عاداتٍ راسخةً في الفرد أو في الجماعة.

والعاداتُ التي سببُها التلقينُ هي الأفعالُ المتكررة الناشئةُ عن اقتداء بالغير وتقليد إياه، لاعتقاد كمالٍ فيه أو لإعجابٍ بأحواله، وهو المسمَّى بالتأسِّي. وإنما تظهر أمثلةُ النوعين الثاني والثالث في العادات السيئة، إذ هي التي يتوقَّف رسوخُها في النفوس على أحد هذين القسمين. أما العاداتُ الصالِحة فهي في غُنْيَةٍ عنهما؛ إذ هي في مستقر الفطرة، وإنما نجدها تحتاج إلى التكرير والتلقين لقصد رسوخها وتيسيرها على النفوس فقط.

وخواطرُ النفوس تجول بالخير والشر بحسب الفطرة، كما أنبأ عن ذلك قولُه تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)} [الشمس: ٨]. (٢) غير أن كثيرًا من الفضائل الحقة تحول دونه ودون النفوس غشاوةُ الشهوة النفسانية التي تنساق إلى الرذائل والمذام، متى وجدت فيها ملاءماتٍ ولذات، منها ما هي عاجلةٌ لا تلبث أن تعقب منافرات وآلامًا لِمُرتكبِها، ومنها ما هي دائمةٌ أو طويلة لكنها أضدادُ الفضائل، فحصولُها حائلٌ دون تحصيل الفضائل. فمن أجل ذلك وُجد البشر محتاجًا إلى الإرشاد إلى العمل الصالح والاعتياد به، ولتجنبه العمل السيِّئ والاعتياد به. وقد سُمِّيَ العملُ الصالح بالمصلحة، وسُمِّيَ العمل السيِّئ بالمفسدة.


(١) لُبانات، جمع لُبانة، واللبانة الحاجة من غير فاقة، ولكن نَهمة. يقال: ما قضيت لُبانتي، أي نهمتي.
(٢) قال المصنف خلال تفسيره للآية المذكورة: "وتعدية الإلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل، باعتبار أنه لولا ما أَوْدَعَ الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لمَا فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية، فلولا العقولُ لمَا تيسر إفهامُ الإنسان الفجور والتقوى، والعقاب والثواب". تفسير التحرير والتنوير، ج ١٥، ص ٣٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>