خطاب رسوله:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: ١٢٥]؟ فلا جرم أن هذه ناحية أخرى لأثر التشريع الإسلامي في الأخلاق.
ثم نرتقي متقصِّين أثرَ التشريع الإسلامي في مكارم الأخلاق، فنجد له أثرًا جليلًا في إصلاح غير المسلمين؛ فإن الله تعالَى كما أراد أن يكون الإسلامُ دعوةً عامة لسائر البشر كما تقرر آنفًا، كذلك قد قضى أن يكون من بين المدعوين إلى الإسلام أممٌ تُعرِضُ عن الدعوة ولا يُحْظَوْن بالشرف به. فلا نحسب هؤلاء محرومين من آثار الإسلام في تحسين أخلاقهم؛ لأنهم حين يمازجون المسلمين ويشاهدون ما تحلَّوْا به من الهدى ومكارم الأخلاق والفضائل في معظم أحوالهم أو سائرها، تتجلى لهم صورةٌ من العظمة الحقة، وتنتشر بينهم سمعةُ المسلمين، فتتحدق عيونُ تلك الجماعة إلى الأخذ من آداب المسلمين بأنصباء تكون مُصْلِحةً لأحوالهم بقدر ما ينالُهم منها. فإن الفضائل مغبوطة، وللناس استدناءٌ إليها بدافع من أنفسهم لا يستطيعون معاكستَه، فيحصل بذلك فائدتان جليلتان:
أولاهما تأهيلُ الأمة الإسلامية لسيادة العالم والنفوذ على مجُاوريها من الأمم بالصفات التي هي قوام السيادة.
والثانية انبثاثُ ثلّة من الفضائل في الأمم التي تخالط المسلمين انبثاثًا يزيد وينقص بمقدار توغُّل خلق الإسلام في أولئك الأقوام.
وعلى هذه الصفة كان مثالُ السلف الصالح من المسلمين - أهل القرن الأول وما يليه - الذين صارت تعاليمُ الإسلام لهم خلقًا، فكان انبعاثُهم إلى الكمال ميسَّرًا عليهم وغيرَ شاق على ولاة أمورهم، فنالوا سيادةَ العالم، فحق وعد الله إياهم بقوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}[النور: ٥٥].