للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد علمتم من هذا أن ملاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة، إما لضيقها عن المعاني، وإما لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإما لتناسي بعض اللغة. فالإحكام والتشابه صفتان للألفاظ باعتبار فهم المعاني.

ثم قوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: ٧] أريد بالأم هنا الأصلُ الذي إليه مرجع المقصود من الكتاب، كما قالوا أم الرأس. قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: ٥٩]؛ وذلك أن المحكم بمعنى المتضح هو الأصلُ الذي يؤول إليه المتشابه. ويحتمل أن يكون لفظ "أم" هنا استعارةً للكثير والمعظم، إذا فُسِّر المحكَمُ بما دل على معناه، والمتشابه بما استأثر الله بعلمه، ذلك أن المتشابه بهذا التفسير قليل جدًّا في القرآن.

وقوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: ٧]، الاتباع هنا مجازٌ عن البحث والتنقيب، أي يبحثون عن المتشابه ويحصونه. وقد ذكر الله علةَ هذا الاتباع، وهو طلب الفتنة وطلب أن يؤولوه، وقد عُلم أن المرادَ تأويلُه بما يوافق أهواءهم من إلقاء الشك والفتنة. ولَمَّا وصف الله أصحابَ هذا المقصد بالزيغ، علمنا أن ذمَّهم بذلك لهذا القصد. ولا شكَّ أن كلَّ اشتغال بالمتشابه، إذا كان مفضيًا إلى هذا المقصد، يناله شيءٌ من هذا الذم على تفاوت في مقداره.

فالذين اتبعوا المتشابه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون والزنادقة والمشركون، مثل العاصي بن وائل السهمي (١) حين جاءه رجل من المسلمين يتقاضاه دينًا، فقال له: "إن محمدًا يقول لكم إننا سنُحْيا ونُبعث، فسيكون لي مال وولد بعد البعث، فأقضيك دينك يومئذ"، فنزل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ


(١) هو العاص بن وائل السهمي، القرشي، والد عمرو بن العاص. كان شديدَ العداوة لرسول الله - عليه السلام -، وقد نزلت فيه الآيات ٦٤ - ٨٠ من سورة مريم، كما أشار إليه المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>