للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا تبيّن أنّ تصدِّيه للإذاعة بالقراءة مباح، فلا ينقض حكمَ الإباحة ما عسى أن يبلغ مدى صوت القارئ إلى سامعٍ يكون على حالةٍ تجعله غير كامل الأهلية لسماع القرآن، أو إلى مكانٍ غير لائق، بل يكفي في جواز فعلِه كونُ الغالب على قراءته أن ينتفع بها المسلمون على اختلاف مقاصدهم وقابليتهم ومبالغ نياتهم. فمراعاة الآداب في ذلك واجبةٌ على السامعين، وليس القارئ بمسؤول عنها. وقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث يسمعه المشركون، (١) وقرأ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في مقام إبراهيم بمسمَع من المشركين. (٢) وقرأ أبو بكر - رضي الله عنه - بمسجده الذي اتخذه بباب داره في مكة، فكانت نساءُ المشركين وصبيانُهم وعبيدهم يقفون عند مسجده يُعجَبون من رقة صوته.

وإذ قد تبيّن أنّ الغالبَ في التصدِّي للقراءة بمركز الإذاعة هو حصولُ النفع بها الذي يغتبط به جمهورُ المسلمين، وكان من النادر إفضاءُ ذلك إلى ظهور صوت القارئ في مواضع قد توجد فيها حالةٌ تقتضي حكمَ مخالفة الأَوْلَى (٣) أو الكراهة أو الحرمة ولو عن غفلة من بعض السامعين، وبعض تلك الأحوال أندر من بعض،


(١) ابن هشام: السيرة النبوية، ج ١/ ١، ص ٢٥٠. وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: "قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فسجد، فما بقي أحدٌ إلا سجد، إلا رجلٌ رأيته أخذ كفًّا من حصى فرفعه فسجد عليه وقال: هذا يكفيني، فلقد رأيته بعد قتل كافرًا". صحيح البخاري، "كتاب مناقب الأنصار"، الحديث ٣٨٥٣، ص ٦٤٦. وذكر ابن سعد عن عبد الله بن حَنْطَب أن هذا الرجل هو الوليد بن المغيرة، وأنه "كان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود"، وقيل إنه أبو أُحيحة سعيد بن العاص، وقيل إنهما "كلاهما جميعًا". الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج ١، ح ١٧٤ - ١٧٥.
(٢) ابن هشام: السيرة النبوية، ج ١/ ١، ص ٢٥٠.
(٣) مخالفة أو خلاف الأولى - كما بين البناني عند تعليقه على قول التاج السبكي وشارحه المحلي بشأن الكراهة - هو حكمٌ قسيم للمكروه عند متقدمي الفقهاء الذين يجعلون المكروه قسمين: الأول: المكروه كراهة شديدة، وهو ما وقع النهي عنه بخصوصه كالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل. والثاني: المكروه كراهة خفيفة، وهو ما ولم يُنه عنه بخصوصه كترك المندوبات مثل صلاة الضحى، وذلك لقاعدة الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده. إلا أن المتأخرين من الفقهاء سموا هذا النوع خلاف الأولى، بمعنى أن الأفضل والأولى فعل المندوبات التي حرض الشارع عليها وأن تركها يكون خلاف ما طُلِب ندبا. انظر: حاشية العلامة البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج ١، ص ١٣٤ - ١٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>