للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد، فليست المداركُ منحصرةً في الكتاب والسنة، فإن القياسَ أعظم المدارك الإسلامية، وإن الحبسَ صرفُ مالك المال مالَه عن ملكه إلى ملك غيره في حياته، فهو مثل الهبة والصدقة، وإن في كليهما مضرةً لورثته بتنقيص التركة، وإنه ليس في شيء منهما تغييرٌ للمواريث، إذ المواريثُ لا تُتصوَّر إلا بعد الموت كما قدمناه في المقدمة، فلا نجد معنًى في قياس الشريعة يمنع من انعقاد الوقف.

وأما ما استند إليه شُريحٌ من اشتمال الوقف على تغيير المواريث، وما رُويَ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حبْسَ بعد سورة النساء"، فنقول: إن الحبس الأهلي ليس فيه تغييرُ المواريث؛ لأنه تفويتُ المال في الحياة، إذ الحبس يُشترطُ في لزومه عند المالكية وعند معظم العلماء أن يقع الحوزُ في حياة المحبِّس وصحته وملائه. وأما المواريث، فإنما تكون فيما تركه الميتُ من ماله بعد موته. ثم الحبسُ الأهلي قد يكون على غير الورثة، وهذا لا إشكالَ في كونه لا يخالف المواريث. وقد يكون على الورثة على الفريضة الشرعية حتى الزوجية، وأن مَنْ مات عن وارث فحقُّه لورثته، وهذا قريبٌ من الأول. وقد يكون على بعض الورثة دون بعض، كالذي على الذكور دون الإناث.

وهذا قد تكلم الأئمةُ في جوازه ومنعه، والذي عليه الانفصالُ أنه يمضي، ولكن المحبس يُؤاخَذُ بنيته في ذلك. وقد نُقل عن مالك رحمه الله القولُ ببطلان الحبس الواقع فيه التنصيصُ على إخراج البنات أو المتزوجات منهن، وهي روايةُ ابن القاسم عنه. قال ابن القاسم: "فإن حازه المحبَّسُ لهم مضى". (١) وروى علي بن زياد التونسي عن مالك أنه مكروه، وفُسرت الكراهةُ بكراهة التنزيه وبكراهة التحريم. واختار محقِّقُو المذهب المالكي روايةَ علي بن زياد، كما اختاره اللخمي وعياض وكثيرٌ من المالكية، وبذلك جرى القضاءُ والفتوى. (٢)


(١) انظر تفصيل ذلك في: البيان والتحصيل، "كتاب الحبس الأول"، ج ١٢، ص ٢٠٤ - ٢٠٦.
(٢) قال قاضي الجماعة بتونس العلامة ابن عبد الرفيع (ت ٧٣٣ هـ/ ١٣٣٢ م): "إخراجُ البنات من الحبس أشدُّ عند مالك في الكراهية من هبة الرجل لبعض ولده دون بعض، لقوله عز وجل: =

<<  <  ج: ص:  >  >>