لا شك أن لهذه الحوادث المكانَ الأسمى لدى علماء الفقه في الدين، لأن عبء الخطأ فيها محمولٌ على عواتقهم. كيف وقد أُودعت لديهم أمانةُ حفظ الدين وفهمه ليؤدوها في أمثال هذه الأحوال؟ ! وهل يظهر مصداقُ كونِ الشريعة الإسلامية صالحةً لكل زمان ومكان إلا لما تستنبطه أفهامُ علمائها؟
فإن الفقيه في الدين هو أحقُّ الناس بأن يكون عالِمًا بحاجات أهل زمانه ومصالحهم، والحريص على حفظ مقاصد الشريعة بتفصيل مجملاتها؛ لأن أسس الدين قد أحكمها الله تعالى يوم قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: ٣]، وتفاريع قواعد الأحكام قد كفانا مهمَّها الأئمة - رضي الله عنهم -، وتعذر أو كاد الالتحاقُ بشأوهم. غير أن هناك مقامًا لا مناصَ للعالم الفقيه من الثبات به، ألا وهو مقام الإلحاقُ المعبَّرُ عنه بتحقيق المناط، المعرَّفُ في أصول الفقه بأنه إثباتُ العلة في آحاد صورها، والمعبَّر عنه عند الفقهاء بتطبيق الكلية على الجزئية، وهو النوعُ من الاجتهاد الذي لا ينقطع ما دام دينُ الإسلام ودامت له علماؤه. (١)
ولقد اشترط الأصوليون في المجتهد أن يكون قد أحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها، بحيث اكتسب قوةً يفهم بها مقصودَ الشارع مما شرعه. ولا يخفى لزومُ اشتراط مقدار من هذا المعنى في الاجتهاد الصغير، أعني تحقيق المناط؛ لأن الأحكام متشابهة، ولا يكاد يميزها إلا مَنْ حصلت له تلك الملكةُ بمقدار الاستطاعة.
ولو أن أهلَ العلم اصطلحوا على الاجتماع عند حلول هذه المشكلات وتدارسوها وتفاهموا فيها، حتى يصير قولُهم فيها سواء، وكلمتهم واحدة، ثم أوقفوا الناسَ عند مرسى سفائن أفهامهم من بحار الشريعة، لكفُوا النَّاسَ همَّ الترداد وأغنوهم عن متابعة من يهيم في كل واد.
(١) راجع تفصيل ذلك في: الشاطبي: الموافقات، ج ٢، ص ٤٦٣ - ٤٨٤ و ٥٥٢ - ٥٩٤.