للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العالم. ولذلك رغب فيهما مَنْ كان متفضلًا، فباع ما فضل عنه بمقدار منهما، فإذا احتاج لأصول الأشياء باع ما لديه من الذهب والفضة للمتفضل بمقدار ما يحصل به على محتاجه.

فبتكرر هذا التعليل تعُورِفَا في التعاوض فصارا الثُمنِيَّيْن، ألا ترى أن المتقدمين كانوا يتعاملون بهما نقارًا ومصوغين، (١) ثم شاع ذلك مع تقادم العصور، حتى تُنُوسِيَ المقصد، وحتى أُشربت نفوسُ الناس حبَّ هذين النقدين لذاتهما، وتنوسي السببُ لكونهما صارا علامة على التفضل والغنى؟ وتعاقدت الضمائرُ على اعتبارهما ثَمنين لسائر الأشياء، وصار التعامل بأعيان الأشياء المعبر عنه بالتعاوض يقل رويدًا رويدًا بمقدار تقدم الحضارة في عصر أو قطر، وكثر التعامل بالنقدين.

وإنما لم يقع التعامل بغيرهما مما هو دونهما - كالرصاص والنحاس - لكثرة وجوده، فلا يمكن حصر مقداره حتى تنضبط الثروة، إذ يمكن لكل أحد أن يقطع منه كميةً فيصبح ذا ثروة وذلك فساد؛ إذ المراد أن تكون الثروةُ حقيقية لا تحصل إلا في مقابلة بذل الأشياء. ولم يقع التعاملُ بما فوقهما كاللؤلؤ والحجارة الكريمة لعز وجودهما، فلا يحصل من الكمية الرائجة منهما ما يسدد أثمانَ الأشياء.

ثم إن للذهب والفضة بعد ذلك خصائصَ مبينة في علم الاقتصاد السياسي: منها سهولةُ التجزئة، ومنها عدمُ قبولهما لاضمحلال عينهما لطول الزمان عند الخزن أو الدفن في الأرض. ومنها اتحادُ جنسهما في الصفة ما لم يُضف إليهما غيرُهما، بخلاف غيرهما فإن منه الجيدَ والرديء. ومنها عسرُ تدليسهما لظهور الغش عليهما بسهولة. وفي هذه الأوصاف ربما فارقتهما تذاكرُ البنوك، إلا أن هذه الأوصافَ يشبه أن تكون أوصافًا طردية لا مدخلَ لَها في التعليل لمشروعية الزكاة. والله أعلم.


(١) النقار: ما ليس مضروبًا من الذهب والفضة، والمصوغ: ما عمل منهما من حلي.

<<  <  ج: ص:  >  >>