للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يخرُجُ إلى الصلاةِ وأثَرُ ماءِ الوضوءِ على قدمَيْه، وما كِدتُ آخُذُ عليه فَلْتةً إلا واحدةً، وهي عُظمى الفَلَتات، وذلك حين شاع في المشرِق والأندَلُس على ألسِنة المُنجِّمة أنّ رِيحًا عاتِيةً تهُبُّ في يوم كذا وكذا في تلك المُدة تُهلِكُ الناس، واستفاضَ ذلك حتّى اشتَدّ جزَعُ الناس معَه واتَّخذوا الغِيرانَ والأنفاقَ (١) تحتَ الأرض توَقِّيًا لهذه الرِّيح؛ ولمّا انتشرَ الحديثُ بها وطَبَّقَ البلادَ استَدعَى والي قُرطُبةَ إذ ذاك طلَبتَها، وفاوَضَهم في ذلك، وفيهم ابنُ رُشد، وهُو القاضي بقُرطُبةَ يومَئذٍ، وابنُ بندود، فلمّا انصَرفوا من عند الوالي تكلَّم ابنُ رُشد وابنُ بندود في شأنِ هذه الرِّيح من جهة الطّبيعة وتأثيراتِ الكواكب؛ قال شيخُنا أبو محمد عبدُ الكبير: وكنتُ حاضرًا، فقلتُ في أثناء المفاوَضة: إنْ صحَّ أمرُ هذه الرِّيح فهي ثانيةُ الريح التي أهلكَ اللهُ تعالى بها قومَ عاد؛ إذْ لم تُعلَمْ ريحٌ بعدَها يعُمُّ إهلاكُها، قال: فانبَرى إليَّ ابنُ رُشد ولم يتَمالكْ أنْ قال: والله وجودُ قومِ عادٍ ما كان حقًّا، فكيف سببُ هلاكِهم! فسُقِطَ في أيدي الحاضِرين وأكبَروا هذه الزَّلةَ التي لا تَصدُرُ إلّا عن صَرِيح الكُفرِ والتكذيب لِما جاءت به آياتُ القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يدَيْه ولا مِن خَلْفِه.

وقال ابنُ الزُّبَير: كان من أهل العلم والتفنُّن، وأخَذ الناسُ عنهُ واعتَمَدوه، إلى أن شاع عنه ما كان الغالبَ عليه في علومِه منَ اختيار العلوم القديمة، والرُّكونِ إليها، وصَرْفِ عِنانِه جُملةً نحوَها، حتى لخَّص كتُبَ أرِسطو الفلسفيَّة والمنطقِيّة، واعتمَدَ مذهبَه فيما يُذكَرُ عنه ويوجَدُ في كُتُبِه، وأخَذ يُنحي على مَن خالَفَه، ورامَ الجَمْعَ بين الشريعة والفلسفة، وحاد عمّا عليه أهلُ السُّنة؛ فتَرَكَ الناسُ الرِّوايةَ عنه، حتى رأيتُ بَشْرَ اسمِه (٢) متى وقَعَ للقاضي أبي محمد بن حَوْطِ الله إسنادٌ عنه؛ إذْ كان قد أخَذ عنه، وتكلَّموا فيه بما هو ظاهرٌ من كُتُبِه.


(١) وقع اضطراب هنا في أوراق النسخة ب، فجاءت تتمة الصفحة السابقة في الصفحة ١٨/ أ.
(٢) أي: حك اسمه.

<<  <  ج: ص:  >  >>