للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت مواهبُ عبد المؤمن له جزيلةً وأُعْطِياتُه مترادِفة وصِلاتُه متَوالية، وربّما وصَلَه في المرّةِ الواحدة بخمس مئة دينارٍ ونحوها، فلا يَبِيتُ عندَه منها شيءٌ ولا يقتَني منها درهماً ولا يدَّخرُ منه قليلًا ولا كثيراً لِما نشَأَ عليه وألِفَه واعتاده مدّةَ حياةِ أبيه من الزُّهد في الدنيا والتخَلِّي عنها، إنّما كان يَصرِفُ ما يصيرُ إليه منه في المحاويج من مَعارفِه وأهلِه والضُّعفاءِ والمساكينِ من غيرِهم.

واستمَرَّ له هذا الحالُ معَ ابنِه أبي يعقوبَ الوالي بعدَه لِما تقَرَّر لديه من سَدادِ أحوالِه وتبيَّنَ عندَه من استقامةِ أمورِه، لم تختلفْ له حالٌ ولا تبدَّلتْ له سيرة، ولا اكتَسَبَ قطُّ شيئًا من عَرَض الدنيا ولا وَضَع مَدَرةً على أُخرى مقتنِعًا باليسير راضيًا بالدُّون من العَيْش، معَ الهمّة العَلِية والنفْس الأبِيّة، على هذا قَطَعَ عُمُرَه، وهذا كان دأْبَه إلى أن فارق الدنيا.

ولم تكنْ همّتُه مصروفة إلا إلى العِلم وأسبابِه، فاقتنَى من الكتُبِ جُملةً وافرةً سوى ما نَسَخَ بخطِّه الرائق كما تقَدَّم، وامتُحِنَ فيها مرّاتٍ بضُروبٍ من الجَوائح كالغَرَق والنَّهْب بغَرْناطة، فقد كان استَصحَبَ إليها من مَرّاكُش خمسةَ أحمال، ولمّا فَصَلَ عنها ترَكَها معَ ما صار له منها مدّةَ مقامِه بها، فأتَى عليه النَّهْبُ في الكائنة على أهل غَرناطةَ عند قيامِهم على لَمْتُونةَ وتحصُّنِ لَمْتُونةَ بقَصَبتِها وما دارَ بينَهم من القتال إلى أن تغَلَّب أهلُ القَصَبة على أهلِ البلد وتمكَّنوا من البلد تمكُّنَ عَنْوة، واستَباحوهُ استباحةَ قَهْر، وفرّ معظمُ الناس عن منازلهِم، فكان ممّن فَرَّ عن منزلِه عِيالُ أبي العبّاس هذا وبعض ولَدِه الذين ترَكَهم بها حين توجَّه إلى مَرّاكُش، فنُهِبَ ما كان بدارِه من كتُب وغيرِها، وكذلك طرَأَ له بمَرّاكُشَ حين دخَلَها عبدُ المؤمن وطائفتُه، فقد كان جَمَعَ منها بمَرّاكُشَ عظيماً، وأُخبرَ أنه كان في حينِ حصارِ مَرّاكُش -والحالُ بها ضيِّقُ والسعرُ شديد- أنه كان يَخرُجُ بالدّرهم ليشتريَ به قُوتًا لنفسِه ولعيالِه، فربّما صادَفَ في طريقِه كتابًا بيدِ إنسان فيشتريهِ منه بذلك الدِّرهم وَيرجعُ دونَ قُوت، ويبقى هو وعِيالُه طاويًا إلى أن ييسِّرَ اللهُ في غيرِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>