للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد وَضَحَ بهذا كله أن الحَريريَّ هُو الذي دانَ لهُ الاختراعُ للبدائع والإنشاء، وأنّ براعَة مَعْلَمِهِ مُعْلِمةٌ أنّ الفَضْلَ بيد الله يؤتيه من يشاء، ولله هو، فلقد نصَحَتْ إشارتُه وزَجَرت مُناهضيه، ونَصَعتْ عبارتُه فنَهَرت إذْ بَهرَتْ مُعارضيه، حينَ ترَنَّم، ونسيمُ أَسحار أغانٍ بيانُه يُطرِبُه، واستيلاؤه على سررِ السّرورِ بإجادتِه يؤمِنُه أن يُسامَى مَرْقاه أو يُسامَتَ مَرْقَبُه، بنَغَماتِ أسكِتا الفَقَرتَيْن (١)، فكلُّ كَلَّفَ نفسَه شَطَطًا، وقَنَعَ أن يأتيَ من القول سَقَطًا، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٢٨].

وإلى ذلك فقد ألزَمَني قديمًا بعضُ مَن يجبُ عليَّ إسعافُه، ولا يَسعُني خلافُه [١٦ ب] مُجاراةَ هؤلاءِ الجِلّة في هذا المضمار، ولم يُصغِ إلى ما أتيْتُ به في ذلك منَ اعتذار، فقلتُ مُمتثِلًا تكليفَه، ومتعرِّضا بما لا يستجيدُ ناقدٌ تأليفَه:

مَلْأَمةٌ بالحُرِّ أن لا يُرى ... منه ثأى جيرانِه مَلْأَمَهْ

والمَلءَ مَه عن شرِّه إنهُ ... مأتىً إلى الهُجنةِ والمَلْأَمَهْ

غيرَ أنّي وَفَيْت فيما رأيتُ بشَرْطِ اشتباه الطرفَيْن في كلا البيتَيْن وإن كان طَرَفا أوّلِهما مشترَكيْن، وجعَلتُ طرَفَي الأوّل بمِرتَيْن وطَرَفَي الثاني معرفتَيْن على حدِّ ما أتى به الحريريُّ في بيتَيْه، وأتيْتُ بالجميع مجنَّسًا كما تراه (٢).

توفِّي بشِلبَ عَشِيَّ يوم الخميس منتصَفِ رجِب أربع وأربعينَ وخمس مئةٍ وهو ابنُ ثمانينَ سنةً، وصُلّي عليه إثْرَ صلاةِ الجُمعَة بعدَه، ودُفن إثْرَ الصلاة عليه، وقد كان أمَرَ أن تُكتَبَ على قبرِه هذه الأبيات [مخلّع البسيط]:


(١) كتب الناسخ فوقها: "بخطه"، والخطأ فيها بيّن.
(٢) أورد ابن دحية في المطرب (ص ٢٢٨) زيادة طويلة للإمام السهيلي. كما أورد المقري في نفح الطيب (٣/ ٤) تذييلًا لابن الصائغ وقال: رأيت في المغرب في هذا المعنى ما ينيف على سبعين بيتًا كلها مساجلة لبيتي الحريري رحمه الله تعالى. ومما يلحق بما ذكره المؤلف بيت لابن رشيق المرسي قال إنه ارتجله خلال مناظرة بينه وبين قسيس كان يقول بأن كون بيتي الحريري لم يأت أحد لهما بثالث ينفي انفراد القرآن بالإعجاز، فأفحمه بنظم البيت التالي:
والمهر مهر الحور وهو التُّقى ... بادر به الكَبْرة والمهرمهْ

<<  <  ج: ص:  >  >>