وعلى الصّبر أن يُمزِّقَ جِلبابَه، وعلى الصدر أن يُغلقَ في وَجْه السُلوِّ بابَه، لنَعْي الجليل السَّعْي، ورَزِيّة الجميل السَّجِيّة، ووفاةِ الكريم الصِّفات، وفَقْد الصَّميم المجد، وذهابِ السَّمح الوهّاب، وقَبْض رُوحانيِّ الأرض، وانعدام معنى الناس، وانهدام مَغْنَى الإيناس، وانكسافِ شمسِ العلم، وانتسافِ قُدْس الحِلم، يَا لهُ حادثًا، جمَعَ قديمًا من الكروب وحادثَا، ومُصابَا جَرَّع أوْصابًا، وأضحَى كلٌّ به مُصابًا. لا جرَمَ أنّي شرِبتُ من كأسِه مُستفظَعَها، وشرِقتُ بها وبدَمْعي الذي ارفَضّ معَها، فغالَتْ خَلَدي، وغالَبت جَلَدي، حتى غِبتُ عنّي، ولم أَدرِ بآلامي [٣٤ أ] التي تُعنِّي، ثم أفَقْتُ من سُكْري، ولَفَقْتُ مُبدَّدَ فِكري، فراجَعَني التَّذكارُ والتَّهمام، وطاوَعَني شَجْوٌ لا تتعاطاهُ الحمَام، فبَكَيْتُ حتى خَشِيت أن يُعْشِيَني، وغَشِيتُ إذ غَشِيَني من ذلك اليَمِّ ما غَشِيَني، وظَلْتُ لُقًى أينما شاء التَّرَحُ يُلقيني، فتارَةً يُغْنيني، وتارَةً يُبقيني. فلو أنّ احتدامي والتدامي، وجَفْنيَ الدّامي، اطَّلعتْ على بَعْضِهِ الخَنْساء، لَقالت: هذه عَزْمَةُ حُزنٍ لا يستطيعُها النِّساء، ذلك بأنّ قسمةَ المَراثي كقسمةِ الميراث، وللذُّكرانِ المزِيّة -كان السُّرورَ أو الرَّزِيّة- على الإناث، هذا لو وازَنَ مَبْكيٌّ مَبْكيًّا، ووازَى تُرابيٌّ فَلَكيًّا، أنا أَبْكي نُورَ علم، وهي تبكي ظُلمةَ جَهْل، ونَدْبتُها لصَخْر، وندبَتي لجبلٍ يدعى بسَهْل، كانت تتفجَّرُ منه الأنهار، وَينهالُ جانبُه من خَشْية الله أو يَنْهار. في مثلِه -ولا أريدُ بالمِثل سواه، فما كان في أبناءِ الجِنس مَن ساواه- يَحْسُنُ الجزَعُ من كلِّ مؤمن تَقِيّ، ويقالُ للمُتجلِّد: لا تُنزَعُ الرحمةُ إلا من شَقِيّ، فكلُّ جَفْنٍ بعدَه جافٌّ، فصاحبُه جِلْفٌ أو جافٍ، وكلُّ فؤادٍ لم تنصدعْ له صَفَاتُه، ولم تتغيَّرْ لفَقْدِه صِفاتُه، فمُتحقَّق عند العُقلاءِ معلوم، أنه معدودٌ في الحجار أو معدوم. فيا ليتَ شِعري! يومَ وَدَّعَ للتَّرحال، ودَعَا حادِيه لشدِّ الرِّحال، كيف كان حاضروهُ في تلك الحال؟ هل استطاعوا معَه صبرًا، أو أطاعوا لِتَثْبِيَتِهِ أمرًا؟ أوَ ضَعُفَ احتمالُهم، وقَوِيَ في مُفارقةِ النّفوس اعتمالُهم؟ ويا ليتَ شِعري! إذا أفادوا الماءَ (١) طهارةً زائدةً
(١) كتب الناسخ فوق "إذا أفادوا الماء": "بخطه"؛ إشارة إلى أن الوجه: إذْ، كما الآتي بعدها.