بغسلِ جلالِه، هل حَنَّطوه بغير ثنائه أو كفَّنوهُ في غير خِلالِه؟ ويا ليتَ شِعري! إذِ استَقلَّ به نَعْشُه الأشرف، تُرفْرِفُ عليه الملائكةُ ويُظِلُّه الرَّفْرَف، هل رأَوْا قبلَه حَمْلَ الأطواد، على الأعواد، وسَيْرَ الكواكب، في مثلِ تلك المَواكب، فيَأْنَسوا بالإلْف، ويرفَعوا منكسِرَ الطَّرْف، ويدَعوا القَبْضَ من أثَرِ ذلك الطِّرْف؟ ويا ليتَ شِعري! إذ أودَعوا دُرّةَ الوجود، صَدَفةَ القبرِ المَجُود، لِمَ آثَروا على نفوسِهم، ورَضُوا الأرضَ مَغرِبًا لأنْوَرِ شموسِهم؟ هلّا حَفَروا له بيْنَ أحناءِ الضُّلوع، وجعَلَوا الصفيح صريحَ الحُبِّ والولوع، فيكونوا قد فازوا بقُربِه، وحازوا فَخْرًا قد حِيزَ به لتُربِه؟ ويا ليتَ شِعري! إذْ لم يفعَلوا ذلك، ولم يهتَدوا هذه المسالك، هل قَضَوْا حقَّ الحُزْن، وشَقُّوا جوانبَ الضَّريح من عَبَراتِهم بأمثالِ المُزْن؟ وهلِ اتَّصَفوا بصِفةِ الأسف أو قَنِعوا [٣٤ ب] منها بأنْ وَصَفوها، وهل تلافَوْا بقايا الأنفُسِ بعدَ المفقود الأنفَس وأتلفوها؟ [الطويل]:
فكلُّ أسًى لا تذهبُ النفسُ عندَهُ ... فما هُو إلا من قَبِيلِ التصنُّعِ
يَا قَدَّس اللهُ مَثْوى ذلك المُتوفَّى، ما أظُنُّ أنّ الجَزَعَ عَمَّ حقَّه ووَفَّى، ولو دَرَى الزّمانُ وبَنوه، قَدْرَ من فَقَدوه، لَوجَدوا للفاجي الفاجع أضعافَ ما وَجَدوه، فقد فَقَدوا واحدًا جامعًا للعوالم، وماجدًا رافعًا لأعلام المعالي والمعالِم، ومُفَدًّى تَقِلُّ لهُ في الفداءِ نفوسُ الأوِدّاءِ والأعداء، ومُبَكًّى ما قامَتْ على مثلِه النَّوائح، ولا حَسُنَت إلا فيه المَراثي كما حَسُنت من قبلُ فيه المدائح.
رحمةُ الله عليه ورِضوانُه، ورَيْحانُ الجِنان يُحييه به رضوانُه، من لي بلسانٍ يقضي حقَّ نَدْبتِه، وجَنانٍ يُفضي بما فيه إلى جَنَنِهِ (١) وتُربتهِ، وقد بلَّهَني حُزْني عليه وبَلَّدني، وتملَّكَني حَصْرُ الحَسْرة عليه وتعبَّدني، وأين يقَعُ مُهَلْهِل البَدِيه، مما يُخفيهِ مُهلهَلُ الثُّكلِ ويُبديه؟ يمينًا، لو لِبثتُ في كهفِ الرَّوِّية ثلاث مئة سنين، واستَمْدَدتُ موادَّ الفُصحاءِ اللَّسِنِين، ما كنتُ في تأبينِ ذلك الفَضْل المُبين من المُحسِنين.