للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألَا، لو أني أتيْتُ بالطارِف من بيانِه المُعْلَمِ: المُطارِفِ والتَّليد، ورثَيْتُ رُشْدَ كمالِه برِثائه كمالَ ابن رُشدٍ أبي الوليد، وأنشَدتُ بَنِيهِ قولَه فيه [الطويل]:

أخِلّايَ إنّي من دُموعي بزاخرٍ ... بعيدٍ عن الشَّطَّيْنِ منه غريقُهُ

وما كان ظنّي قبلَ فَقْدِ أبيكمُ ... بأنَّ مُصابًا مثلَ هذا أُطيقُهُ

ولم أَدرِ مَنْ أشقَى الثلاثةِ بعدَهُ: ... أأبناؤه أم دَهرُهُ أم صديقُهُ؟ (١)

ثُم استَوْفَيْتُ تلك الأبياتَ والرِّسالة، وأجرَيْتُ بِترجيعِها من دم الكبِدِ ونجيعِها عَبَراتي المُسالة؛ فحينَئذٍ كنتُ أُوَفّي المصابَ واجبَه، وأَشْفي صدورًا صَدِيّةً شَجِيّةً وقلوبًا واجفةً واجبة. أولو أنّ ما رَثَى به نفسَه الكريمةَ من كلماتِه حين رأى الحَيْنَ مُقْتَضيًا حُشاشةَ مَكرُماتِه، أثارَ كامنَ وَجْدي بألفاظِه المُبْكِيَة، ومعانيه التي تَحُلُّ من مَزادِ العيونِ الأوْكِتة، لأثْقَبَ لي زَنْدًا، وأعقَبَني صَفاةً تَنْدى، وأطمَعَني في أن يعودَ بُكايَ زَنْدًا (٢)، فقد بَلَغَني أنه حينَ وقَفَ على ثَنِيّة المَنِيّة، وعرَفَ قُربَ انتقالِ الساكن من البَنِيّة، جمَعَ بناتِ فِكرِه كما جمَعَ شَيْبةُ الحمدِ بناتِ خِدرِه، وقال: يَا بُنَيّاتي، قد آنَ ليوميَ أن ياتي، فهل لكُنَّ أن تَرثينَني قبلَ أن ترِثْنَني؟ فوَضَعْنَ أكبادَهنَّ على الوَشِيج، ورفَعْنَ أصواتَهنّ بالنَّشيج، وأنبَرَيْنَ يُرجِّعْنَ الأناشيد، وُيفجِعْنَ [٣٥ أ] القريبَ والبعيد، حتّى أومَأَ إليهِنّ بأنْ قد قَضَيْنَ ما عليهِنّ. فيا خَوْفاه! ومثلي بهذا النِّداء نُخِي وتَاه، أسهِموا أخاكم في ميراثِ تلكُم الكَلِم، وارحَموا فؤادًا بالمُلمِّ المؤلم قد كُلِم، ولا تقولوا: تكفيهِ مَواريثُ الأحزان، فتبْخَسُوني -وحاشاكم- في الميزان, فإنّي وإن تناولتُها باليدَيْن، وغُلِبت عليها بأنّي صاحبُ الفريضيْنِ والدَّيْن، فأنا لحَظّي من ميراثِ الحِكمةِ سائل،


(١) الأبيات من شعر صَدّر به سهل بن محمد هذا رسالة تعزية إلى أولاد أبي الوليد بن رشد، وهي في الإحاطة ٤/ ٢٨٢.
(٢) هو من قول عمرو بن معد يكرب:
ما إن جزعت ولا هلعت ... ولا يردُّ بكاي زندا
(ينظر اللآلي في شرح أمالي القالي، للبكري ٣/ ٧٠)، والمعنى: لا يعني بكائي شيئًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>