ومعَ أنّ لي حقًّا فلي ذِممٌ ووسائل، فابعَثوا إليّ ما يُطارحُني في أشجاني، وأقفُ على رَسْمِه فأقول: شَجَاني، ولا أطلُبُ من كلام ذلكم الإِمام، العزيزِ فَقْدُه على الإسلام، قولَه في التصبير على الرُّزْءِ الكبير ووَصاتَه، لئلا يُلزِمَني -ولستُ بالمستطيع- إصغاءَ المُطيع لأوامره وإنصاتَه، فإنِ امتَثَلْتُ، أصَبْتُ مقتَلي بما نثَلت، وإن عصيْت، أبعَدْتُ نفْسي من رِضاه وأقصَيْت، ولي في استصحابِ حالي أمل، وما لم يرِدْ خطابٌ لم يلزَمْ عمل. على أنّي وإن صابَ وابلُ دَمْعي وصَبّ، وأصبحتُ بذكْرِ المصابِ الكَلِفَ الصَّبّ، فلا أقولُ إلا ما يُرضي الرّبّ، فأنا أَبكي عالِمًا كبيرًا، وعَلَمًا شَهيرًا، تُسعِدُني في بُكائه المِلّة، وتُنجِدُني بوَجْدِها فأنا الكاتبُ وهي المُمِلّة. وأما أنتُم أيُّها الإخوةُ الفُضَلاء، والصَّفوةُ الكُرَماء، فقد تلقَّيتُم وصاياهُ المبارَكةَ شَفاهًا، وداوَى صدورَكم بكلامِه النافع وشَفَاها، فلا يَسَعُكم إلا الامتثال، والصبرُ الذي تُضرَبُ به الأمثال، فعزاءً عزاءً، وانتماءً إلى التأسِّي واعتزاءً، فإنْ فَضَلَ رُزْءٌ أرزاءً، وكان جُزءٌ منه يعادلُ أجزاءً، فعلى قَدْرِها تُصابُ العلياء، وأشدّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأولياء، ذلك لتتبيَّنَ فضيلةُ الرِّضا والتسليم، وتتعيَّنَ صفةُ مَن يأتي الله بالقلبِ السليم، وُيعلَمَ كيف يَخلُفُ الكريمَ الكريم، وكيف يَحُلُ الأجرُ العظيم، بعَقْوةِ الصابرينَ فلا يبرَحُ ولا يَرِيم. وهَبَ اللهُ لكم في مُصابِكم صَبْرًا على قَدْرِه، وسكَبَ دِيَمَ مغفرِتِه على مَثْوى فقيدِكم وقَبْرِه، وطيَّبَ بعَرْف رَوْضاتِ الجنّات جَنَباتِ قَصرِه، ونفَعَه بما كان أودَعَه من أسرارِ العلوم في صَدْرِه، وخَلَفَه منكم بكلِّ سَرِيٍّ يُحِلّه المجدُ من كلِّ نديٍّ بصَدْرِه، بعِزّتِه، والسلامُ يَخُصُّكم به المُجِلِّ لشانِكم، المُجلِّي في مِضمارِ أشجانِكم، محمدُ بن محمد بن الجنان، ورحمةُ الله وبرَكاته. ومن أوّلِ مخصوصٍ بتحيّتي وسلامي، ومقصودٍ في التعزِية بإشارتي وكلامي، عملًا بقولِه عليه السلام:"الكُبْرَ الكُبْرَ"(١)، وطَلَبًا للتأسِّي من نفوسٍ [٣٥ ب] كريمةٍ
(١) الكُبْرَ الكُبْرَ: بضم الكاف وسكون الباء الموحدة وبالنصب فيهما على الإغراء، وهو حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة، وكان الذي بدأ بالكلام عبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم، فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هذا يريد أن يبدأ الأكبر في الكلام، وهو في صحيح البُخَارِيّ (٦٨٩٨) وفي بعض الروايات: كبر كبر، بتكرار الأمر، وينظر فتح الباري ١٢/ ٢٣٣ - ٢٣٤ في شرح هذا الحديث.