جهد، فصبر على أذيّتهم، وصابرهم، وحاسنهم، وأغضى على سفاهة سفهائهم، وفجور طغاتهم، خرج -كما عرفنا- ومعه صاحبه وصدّيقه أبو بكر، وربيبه، رضيع ثدي النبوّة، عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنهما- يعرض نفسه ودعوته إلى التوحيد والعدل على الناس، ويدعوهم إلى الإيمان به وإلى أن يؤووه، وينصروه على ظلم قريش وافترائها الكذب على الله. وتظاهرها على رسوله وهو قائم بأمر الله، ينشر دعوته، ويبلغ رسالته، فأفكت عليه وكذّبته، واستغنت بالباطل من الكفر الفاجر والوثنيّة الماديّة البليدة الظالمة المظلمة، وطرحت الحق وراءها ظهرياً، ولم ترفع له رأساً، وأقامت على عتوّها وعنادها تتربّص برسول الله الدوائر، وتمكر به وبأصحابه، وتؤذيهم أبشع الإيذاء -كما أسلفنا- متفنّنة في الإساءة والتعذيب، وهم صابرون محتسبون!
ولقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الغرّ البهاليل من شيبان بن ثعلبة، الذين يصفهم الصدّيق أبو بكر - رضي الله عنه -، وهو أعرف العرب بأنساب العرب وشمائلهم، فيقول وقد التفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن استخبرهم فانتسبوا له: هؤلاء غرر في قومهم، وهذا التعبير في صدقه ودقته مليء بالصور التي تسترعي الانتباه، فهو لم يقل: غرر قومهم، تحفّظاً أن يوغر صدر من عسى أن يكون في مستواهم أو أرفع قدراً منهم ولم يشهدهم! وهو بهذا الأسلوب البارع قد أدّى حقّ الروعة البيانيّة التي تفتح قلوب هؤلاء الغرّ الميامين؛ لما يرد عليهم من أحاديث الهداية والحق والعدل، ومكارم الأخلاق، ولا توصد باب النظر دون غيرهم! وكان في المقدمة مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وبدأ أبو بكر فأدار الحديث مع مفروق بن عمرو، لغلبته على القوم جمالًا وبياناً، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - يصغي