فكان عجيباً أن تروا مساكن الظالمين أمامكم، خالية منهم، وأنتم فيها خلفاء، ثم تقسمون مع ذلك: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤)}!
وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد، وندرك أين صاروا، وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرَّجاء!
وإن هذا المثل ليتجدّد في الحياة، ويقع كل حين .. فكم من طغاة بغاة عتاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم، وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم، ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبّرون، ويسيرون حذو النّعل بالنّعل سيرة الهالكين، فلا تهزّ وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها، والتي تتحدّث عن تاريخ الهالكين، وتصوّر مصائرهم للناظرين، ثم يؤخذون أخذة الغابرين، ويلحقون بهم، وتخلو منهم الديار بعد حين!
ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك، إلى واقعهم الحاضر، وشدّة مكرهم بالرسول والمؤمنين، وتدبيرهم الشرّ في كل نواحي الحياة، فيلقي في الرّوع أنهم مأخوذون إلى ذلك الضمير، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)}!
إن الله محيط بهم وبمكرهم، وإن كان مكرهم من القوّة والتأثير حتّى ليؤدّي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصوّر التحرّك والزّوال، فإن مكرهم هذا ليس مجهولاً، وليس خافياً، وليس بعيداً عن متناول القدرة، بل إنه لحَاضر {عِنْدَ اللَّهِ} يفعل به كيفما يشاء: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}!