وهنا يعرض عليهم القرآن خطّة، هي غاية ما يبلغه النهج الربّانيّ من تكريم الإنسان، والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه الخالق جل شأنه!
يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبّر عقولهم .. ويعين لهم منهج النظر الصحيح، كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطئ إذا اتبعها ذلك المنهج، وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة، ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى .. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)} (النساء)!
وفي هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيّته .. كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها، وهي في الوقت ذاته ذات دلالة لا تمارى!
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من تدبّر هذا القرآن أبداً .. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف القول والأجيال في إدراك مداها، ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها -بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه- ما يملك إدراكه، في محيط يتكيّف بمدى القدرة والثقافة والتجربة، والتقوى!
ومن تمَّ فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية، ومستطيع -عند التدبّر وفق منهج مستقيم- أن يدرك من هذه الظاهرة (ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق) ما تهيّئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه!