كان عند كل أمة من أمم الجاهليّة الأولى آلهة شتى تُعبد من دون الله، فإن التاريخ قد استيقظ من غمرات غفلاته، وحزم تراثه وحمله على مناكبه، وسار به في سرعة خاطفة، ميمّماً مشرق الشمس، حتى إذا بلغ (الربوة الحمراء) في فيافي الجزيرة العربيّة، ألقى عن كاهله أثقاله!
والجزيرة العربيّة يومئذ في عزلة موحشة، ونسيان شرود، ولكن ضربات المخاض القاسية التي كانت أناتها بانفراجها عن الحدث الجليل ذكّرت التاريخ بها، فذهب إليها وهو يلهث مكدوداً، وألقى بثقله في أحضانها، على ربوتها في أرض أم القرى، وغطّ في نوم قلق مليء بالرؤى وأضغاث الأحلام، رجعاً لصدى ماضيه السحيق!
وعلى صوت حفيف أقدام خافت في رمال الصحراء تيقّظ من غفوته، وانتبه من غفلته، فانبعث من مرقده متكاسلاً يتمطى ويمسح عن عينيه رماص الكبر, وإذا به مع نفسه وحيداً إلا من طفل في مهده يضغُو من شدة العطش، وإلى جانبه أم رصينة، لهفانة، لا تستقر نظرتها على شيء، حتى على طفلها المتضاغي في مهده، كأنها تخاف أن تنظر إليه .. بيد أنها كانت تنوء تحت وطأة الآلام تعصر قلبها، وتحرق كبدها، كلما حرك الطفل قدميه يفحص بهما رمال الصحراء، كأنه يطلب شيئاً أودعه له فيها حفيظ أمن!
وانفجرت الرمال عن الوديعة، فإذا هي (زمزم) عين لا تغيض!، وصدق إلهام (هاجر) حين قالت لإبراهيم الذي جاء بابنه مع أمّه إلى هذا الوادي الأجرد اليابس، فيما رواه البخاري عن ابن عباس:"آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إِذن لا يضيعنا"!
وحين كانت زمزم عيناً معيناً، شربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: