وقد يكون هذا هو السبب فيما يقع من الوهم في صلاحية (العقل) وحده لإدراك الحقائق العليا إدراكاً مباشراً، دون اعتماد على الحس، ولعل هذا الوهم يستند إلى تاريخ الفلسفات القديمة التي أطلقت لـ (العقل) أعنة السبح فيما وراء الطبيعة: في الخالق ونعوته، وفي عوالم الأرواح والملائكة والأفلاك والسموات، وفي الحياة وطريقة صدورها عن الخالق. ولاشك أن هذه حقائق عليا، لا سبيل لتدخل الحس فيها، بل استقل (العقل) في خوض بحارها، فغرق في أعماقها، ثم طفا وفي يديه قضايا ومعارف آمن بها، وأقام عليها صرح أعرق فلسفاته القديمة، وهي الفلسفة الإغريقية التي فُتن بها كثيرون، وها هو ذا العلم التجريبي وفلسفات (العقل) المتوسب وقد زعزعا أركان تلك الفلسفات القديمة!
والرسل الكرام -عليهم صلوات الله وتسليماته- يضيقون ذرعاً بهذه البلادة العقليّة، وذلك التعبّد الذليل للغرائز العمياء التي تستلهم المادة، وتستهدي بها في أغراضها، وتستوحي الأرض في تحقيق مطالبها، وتتصامّ عن سماع صوت السماء، حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أن منافذ الأمل قد سدّت، وأبواب الرجاء في تخليص (العقل) من سلطان الغرائز وسيطرتها قد أُوصدت، لم يبق لهم إلا التطلُّع إلى طور إنساني جديد، يتجدد به ميلاد الإنسانيّة بـ (عقل) يشبّ عن الطوق، وتتهيّأ له وسائل التغلب للتفلّت من أغلال الغرائز، مستعداً لفهم لغة فوق لغة الحس، تتحدث عن عوالم الغيب وموازين الأخلاق!
ولقد كان لـ (العقل) الإنساني ومضات في هذا الطور من أطوار الحياة، إذا نبَّهته الرسالات الإلهيّة تنبّه، وأشرقت آفاقه بنور الحق في سرعة خاطفة .. أما