والرسول - صلى الله عليه وسلم -كما عرفنا- كان هاجراً للشرك، ولموجبات العذاب، حتى قبل النبوّة، فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف، وهذا الركام من المعتقدات الشائهة، وذلك الرجس من الأخلاق والعادات، فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية .. ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة، وإعلان التميّز الذي لا صلح فيه ولا هوادة .. فهما طريقان، مفترقان لا يلتقيان، كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز -والرجز في الأصل هو العذاب، ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب- تحرزّ التطهر من مس هذا الدنس!
ويوجّهه إلى إنكار ذاته وعدم المنّ بما يقدّمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)}!
وهو - صلى الله عليه وسلم - سيقدّم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء .. ولكن الله يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدّمه ويستكثره ويمتنّ به .. وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحسّ بما تبذل .. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها إيّاه، وعطاء يختارُهَا له، ويوفّقها لنيله، وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله، لا المنّ والاستكثار!
ويوجهه أخيراً إلى الصبر لربّه: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧)}!
وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت، والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة .. معركة الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات، وتدفعهم شياطين الأهواء!