ويطالعنا هذا المشهد، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس .. إنهم يفركون أعينهم، ويلتفت أحدهم إلى الآخر فيسأل:{كَمْ لَبِثْتُمْ}؟ كما يسأل مِن يستيقظ من نوم طويل، ولابد أنه كان يحسّ بآثار نوم طويل:{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}!
ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها، ويدعوا أمرها لله -شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله- وأن يأخذوا في شأن عمليّ، فهم جائعون، ولديهم نقود فضيّة خرجوا بها من المدينة:{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم، ويعرف مخبؤهم، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجماً -بوصفهم خارجين على الدّين، لأنهم يعبدون إلهاً واحداً في المدينة المشركة! - أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب، وهذه هي التي يتقونها، لذلك يوصون أحدهم أن يكون حذراً لبقاً: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩)}! فما يفلح من يرتدّ عن الإيمان إلى الشرك، وإنها للخسارة الكبرى!
وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم، حذرين خائفين، لا يدرون أن الأعوام قد كرَّت، وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالاً قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيّرت معالمها، وأن المسلّطن الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم، وأن قصة الفتية الذين فرّوا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف، وأن الأقاويل حولهم متعارضة، حول عقيدتهم، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم!
وهكذا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر!