للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم بشراً يدرك كيف يفكّر البشر، وكيف يشعرون، ويحسّ ما يعتلج في نفوسهم، وما يشجر في كيانهم، وما يعانون من نقص وضعف، وما يجدون من ميول ونزعات، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل، وما يعترضهم من عوائق وعقبات، وما يعتريهم من مؤثِّرات واستجابات!

بشراً يعيش بين البشر، وهو منهم، فتكون حياته قدوة لهم، وتكون لهم فيه أسوة، وهم يحسّون أنه واحد منهم، وأن بينه وبينهم شبهاً وصلةً، فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه، ويدعوهم لاتّباعه، وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج، فقد حقّقه أمامهم بشرٌ منهم في واقع حياته!

بشراً منهم، من جيلهم، ومن لسانهم، يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم، ويعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتفاهمون معه، ويتجاوبون وإيّاه، ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه، أو اختلاف لغته، أو اختلاف طبيعة حياته، أو تفصيلات حياته!

ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون، هو الذي كان دائماً موضع العجب، ومحطّ الاستنكار، وموضوع التكذيب!

ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار، كما كانوا يجهلون تصوّر طبيعة الرسالة، وبدلًا من أن يروها قيادةً واقعيّة للبشريّة في الطريق إلى الله، كانوا يتصوّرونها خياليّة غامضة محوطةً بالأسرار التي لا يصح أن تكون مفهومة هكذا أو قريبةً!

كانوا يريدونها مُثُلاً خياليّة طائرةً لا تُلمس بالأيدي، ولا تبصر في النور، ولا تدرك في وضوح، ولا تعيش واقعيّة في دنيا الناس!

<<  <  ج: ص:  >  >>