للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بكَّار والنَّسائيُّ من رواية عقبة: «وأَنا أَغْلِبُهُ والنَّاسَ يَغْلِبُ» فوصفته مع جميل العشرةِ لها والصَّبر عليها بالشَّجاعة، وهذا كما حكاه صاحب «تحفة النفوس»: أنَّ صعصعة بنَ صوحانَ قال يومًا لمعاوية: كيف ننسبك إلى العقلِ وقد غلبكَ نصفُ إنسانٍ؟ يريد: امرأتَهُ فاختةَ بنت قَرَظَة. فقال: إنهنَّ يغلبنَ الكرام ويغلبهنَّ اللِّئام. وقال عياض: وقولها: والنَّاسَ يغلبُ، فيه نوعٌ من البديع يسمَّى التَّتميم؛ لأنَّها لو اقتصرت على قولها: وأنا أغلبهُ لَظُنَّ أنَّه جبانٌ ضعيفٌ، فلمَّا قالت: والنَّاسَ يغلب. دلَّ على أن غلْبها إيَّاه إنَّما هو من كرمِ سجاياه، فتمَّمت بهذه الكلمةِ للمبالغةِ في حُسن أوصافه.

(قَالَتِ) المرأة (التَّاسِعَةُ) ولم تسمَّ، تمدحُ زوجها: (زَوْجِي رَفِيعُ العِمَادِ) بكسر العين المهملة، وهو العمود الَّذي يدعم به البيت؛ تعني: أنَّ البيت الَّذي يسكنُه رفيعُ العمادِ ليراه الضِّيفان وأصحابُ الحوائج فيقصدونهُ (١) كما كانت بيوت الأجواد، يعلونَها ويضربونَها في المواضع المرتفعةِ ليقصدهم الطَّارقون والطَّالبون، أو هو مجازٌ عن زيادة شرفهِ وعلوِّ ذِكْره (طَوِيلُ النِّجَادِ) بكسر النون بعدها جيم فألف فدال مهملة. قال في «القاموس»: ككِتَاب، حمائل السَّيفِ، أي: طويل القامةِ، وفي ضمنِ كلامها: أنَّه صاحبُ سيف، فأشارت إلى شجاعتهِ (عَظِيمُ الرَّمَادِ) لأنَّ نارهُ لا تطفأُ لتهتدي الضِّيفان إليها، فيصير رمادها كثيرًا لذلك، أو كنَّت به عن كونه مضيافًا لأنَّ كثرةَ الرَّمادِ مستلزمةٌ لكثرة الطَّبخ المستلزم (٢) لكثرة الأضيافِ، وهذه الكنايةُ عندهم من الكنايات البعيدةِ لأنَّ الانتقال فيها من الكِناية إلى المطلوبِ بها بواسطة، فإنَّه ينتقل من كثرة الرَّماد إلى كثرةِ إحراق الحطبِ تحت القدْر (٣)، ومن كثرةِ الإحراقِ إلى كثرة الطَّبائخِ، ومنها إلى كثرةِ الآكلين، ومنها كثرةُ (٤) الضِّيفان.

وههنا فائدةٌ جليلةٌ في الفرق بين الكنايةِ والمجاز: قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين السُّبكي: ومن خطِّه نقلتُ من الفروق المشهورةِ بينهما (٥): أنَّ الحقيقةَ لا يصحُّ إرادَتُها مع المجاز وتصحُّ


(١) في (ب): «فيقصدوه».
(٢) في (س): «المستلزمة».
(٣) في (ب) و (س): «القدور».
(٤) في (د): «إلى كثرة».
(٥) في (م): «بينها».

<<  <  ج: ص:  >  >>