للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سنة ثمان وعشرين وأربعمائة عن ثمان وخمسين سنة. حدث بخبره صاحبه أبو عبيد الجوزجاني عنه قال: كان أبي رجلا من أهل بلخ فانتقل إلى بخارى، وتولّى عملا في أيام نوح بن منصور الساماني بقرية يقال لها خرميثن [١] ، وتزوج أبي من قرية تلاصقها يقال لها أفشنة، وبها ولدت. ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن والأدب، فأكملت العشر وقد حفظت القرآن. وقدم علينا أبو عبد الله الناتلي، وكان يدّعي معرفة علم الفلسفة، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه، فقرأت عليه كتاب «إيساغوجي» . فكان إذا مرّت مسألة تصورتها خيرا منه حتى قرأت عليه ظواهر المنطق، ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق وإقليدس، ثم انتقلت إلى المجسطي فقال لي الناتلي: تولّ حلّه بنفسك، ثم اعرضه عليّ لأبين لك صوابه من خطئه، فحللت الكتاب وعرضته عليه فكم من مشكل ما عرفه إلا وقت عرضي عليه، ثم رغبت في علم الطبّ، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أنني برزت فيه في أقلّ مدة حتى بدأ فضلاء الطبّ يقرأون عليّ، وتعهدت المرضى فانفتح لي من المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف. هذا وأنا أختلف إلى الفقه وأناظر فيه وأحكمه. وكنت حينئذ من أبناء ست عشرة سنة، وما نمت في هذه المدة ليلة بطولها. وكان إذا أشكل عليّ شيء بتّ وأنا مهموم فأراه في المنام فيتضح لي في الأحلام حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدت إلى العلم الإلهي، وقرأت منه كتاب «ما بعد الطبيعة» فما كنت أفهمه، وألتبس عليّ غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فصار لي محفوظا وأنا لا أفهمه، ويئست منه وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه ألبتة.

فحضرت يوما في الوراقين والمنادي ينادي على كتاب في الحكمة، وعرضه عليّ فأعرضت عنه، فقال لي: اشتره فصاحبه محتاج فاشتريته بثلاثة دراهم، وإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب «ما بعد الطبيعة» فطالعته ففهمت الكتاب وتصدقت على الفقراء بشيء كثير، شكرا لله تعالى على ذلك. وكان إذا استغلق عليّ شيء من العلوم، قصدت الجامع، وصلّيت وتضرعت إلى مبدع الكلّ حتى يسهّله


[١] ر: جريمس.

<<  <  ج: ص:  >  >>