للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخطىء وأصيب فأخاف بادرة خطأ يكون فيها حتفي، وقد رأيت ذلك في جماعة من أولياء مولانا، والسعيد من وعظ بغيره. فقال: لك ذلك. فقال أبو القاسم: أحبّ أن يكتب لي مولانا خطّه بذلك، ويعطيني توثقة من نفسه به، فقد أوجب هذا الانبساط وسوء الأدب في الخطاب تحكيم مولانا إياي. فوجد من الحاكم وقفة في ذلك. فقال له: لا بأس، نحن عبيد، والمولى مالك. وأرجو أن لا آتي بما يكره مولانا، وأعيش في نعمته على رضاه وما يهواه. ولكن لي أخت لها من قلبي منزلة أخاف عليها من الريح إذا هبّت، إن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لها أمانا على نفسها، ويوثقها على بقاء مهجتها وصيانتها فعل، فقال له: لك ذلك، على أن تعطيني موثقا أن لا تفارق حضرتي إلا بإذني. فقال له: لك ذلك. وكتب كلّ واحد منهما بذلك خطّه، وأيّده بيمين حلفها. وخرج أبو القاسم من مجلسه وتهيأ من وقته للاستتار، فأحضر عجوزا ممن يوثق بعقلها وديانتها، وأمرها أن تكتري دارا في بعض المحالّ النائية، وتتردّد إليها، وتبيت فيها تارة، وتنقطع أخرى، ولا تخالط أحدا من الجيران، ورتّب ذلك مدة سنتين أو ثلاث. فاتفق أنه استدعي يوما إلى القصر، فدخل والحاكم جالس في مستشرف الدار، ولم يره أبو القاسم، وكان في اجتيازه قد وطىء نواة تمرة، فلما صار بحيث الحاكم جعل ينفض نعله عدّة نوب، حتى سقطت النواة، ثم التفت فرأى الحاكم فقبّل الأرض بين يديه، فوجد التغير في وجهه، والإنكار باد في نطقه، وإن أظهر التجمّل والانبساط، فعلم أبو القاسم أن الحاكم قد ظن أن نفض نعله كان استهانة به واحتقارا له، وعلم أن الحاكم لا يقيل العثرة، ولما خرج من حضرته، مضى إلى الدار التي أعدتها تلك المرأة، واستتر فيها، وطلبه الحاكم فلم يوجد [واستخبر عنه] من أبيه، فأنكر أن يكون عرف له خبرا، أو وقف منه على أثر، فاعتقل أباه وجميع أهله، وأوقع بهم القتل، وجاء بأخته المذكورة، فعلقها وطلب منها أخاها، وضربها ضربا وجيعا ونادى في البلد بالتماسه، فلم يوقف له على خبر، فأخرج أباه وأخاه وجماعة من أهله إلى المقطم، جبل مطلّ على القاهرة، وضرب أعناقهم صبرا، ثم خرج بنفسه حتى وقف عليهم، وأمر برفعهم وغسلهم وتكفينهم ودفنهم، ورجع إلى داره بالقصر، وجلس للعزاء بهم، وحضرهم الناس، وعليهم ثياب الحزن، وهذا من أعجب تلوّن هذا الرجل- يعني الحاكم- فإنه كان متناقض

<<  <  ج: ص:  >  >>