البخل كيسا وفطنة، ونسب السخاء خرقا وهجنة، وفديت الدراهم بالمحارم، والمائدة بالوالدة، والفلس بالعرس، سبيلا [١] لأخفيت القدم، وأعفيت القلم، ولكنت مليا بمحامده في كعبة فضائله حاجا إلى بابه، عاجلا بالاستئذان على حجّابه، فسقى الله [....] وكان الشريف البصري، وكان يجمع شملنا، ويصل حبلنا، ويضم أشتاتنا، ويعمّ بالاجتماع أوقاتنا، فنرتبع من مجلس الشيخ الفقيه في روض أريض، ونشفي بلقائه داء كلّ قلب مريض، ونتجارى في حلبات الفضل، فنتجاذب أطراف الجدّ من الحديث والهزل. وبعدا لهذه الأيام التي منعتنا مشاهدته، وحرمتنا مجاورته ومحاورته، وحجبته عنا، وأخذت له بانقطاعنا عنه فوق حقه منا.
وعلم الله أنني وصلت غرّة ذي الحجة إلى مدينة الري التي أقفر من المروءة جنابها، وصفرت من الفتوّة وطابها، وترأس أذنابها، وتذأب كلابها، ونسخ شرع الافضال في ربوعها، ومسخ كلّ من عرفناه من تابع أهلها ومتبوعها، وكان أول ما بدأت به السؤال عن أخباره، أجراها الله على إيثاره، والشيخ الإمام الحافظ بذلك شاهد، وليس في إقامة هذه الشهادة بواحد، فعرّفني من سلامته ما سكنت إليه نفسي، وشكرت الله عليه، ثم عدت إليها بعد الرحيل، ونزلت منها بربع محيل، فبلغني ما ساءني وأقلقني، وأزعجني وأرّقني، وجدّد سوء ظني بالزمان الجاهل، وأكد قبيح رأيي في الدهر الخامل، إلّا بما يسوء الأحرار، ويسرّ الأغمار، وما استبدعته من ذميم عادته، ولئيم جبلته، وقديم خرقه، وعظيم هوجه:
دفن ابن سلمان كان أولى ... لو وفّق الدهر للصواب
ودفن من يصطفيه أيضا ... من المخانيث والقحاب
لكنّ هذا الزمان كلب ... يفترس الأسد بالكلاب
وما تلك الحلية إلا من جملة الناس، ورب عار أحسن من كاس، وإذا تبلّجت الأرض فالروض يعود، وما دامت السماء فالشهب تطلع على الرسم المعهود. وسلب الحجل خير من قطع الرجل، وما هو إلا نصل جرّد من غمده، وجيد عطل من عقده، وغصن عرّي من ورقه، وورده على غير جريمة، ولا إتيان عظيمة ولا غشيان كريمة:
[١] اقرأ: لو وجدت الى لقاء الشيخ الفقيه سبيلا (وما بينهما جمل معترضة) .