فقلت له يوما، شغفا بفصاحته والتذاذا بمطاولته وجريا على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زند فطنته: كيف تقول: «أكرم أخوك أباك» . فقال كذاك، فقلت له:
أفتقول «أكرم أخوك أبوك» فقال: لا أقول «أبوك» أبدا؛ قلت فكيف تقول:
«أكرمني أبوك» فقال: كذاك، قلت ألست تزعم أنك لا تقول «أبوك» أبدا؟ فقال:
أيش هذا، اختلفت جهتا الكلام. فهل قوله «اختلفت جهتا الكلام» إلا كقولنا نحن «هو الآن فاعل وكان في الأول مفعولا» فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم وإن لم تطع به عبارتهم.
أخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال «١» : سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ «ولا الليل سابق النهار» فقلت له: ما أردت؟ قال:
أردت «سابق النهار» . فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن، أي أقوى وأفصح. ففي هذه الحكاية من فقه العربية ثلاثة أشياء: أحدها أنهم قد يراعون من معانيهم ما ننسبه إليهم ونحمله عليهم، والثاني أنهم قد ينطقون بالشيء وفي أنفسهم غيره، ألا ترى أنه لما نصّ أبو العباس عليه واستوضح ما عنده قال:«أردت كذا» وهو خلاف ما لفظ به، والثالث أنهم قد ينطقون بالشيء غيره أقوى منه استلانة وتخفيفا، ألا تراه كيف قال: لو قلته لكان أوزن، أي أقوى وأعرب.
قال ابن جني: وسألت الشجريّ صاحبنا هذا الذي قد مضى ذكره، قلت له:
كيف يا أبا عبد الله تقول:«اليوم كان زيد قائما» فقال: كذلك، فقلت: فكيف تقول «اليوم انّ زيدا قائم» فأباها البتة، وذلك أن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبلها لأنها إنما تأتي أبدا مستقبلة قاطعة لما قبلها عما بعدها وما بعدها عما قبلها.
قلت له يوما ولابن عم له يقال غصن، وكان أصغر منه سنّا وألين لسانا «٢» : كيف تحقّران «حمراء» ؟ فقالا:«حميراء» ، قلت:«فصفراء» ؟ قالا:«صفيراء» قلت: «فسوداء» ؟ قالا «سويداء» ، واستمررت بهما في نحو هذا فلما استويا عليه دسست بين ذلك «علباء» فقلت «فعلباء» ؟ فأسرع ابن عمه على طريقته فقال