ثم ذهبت إلى الامامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي، وكانا قد انتهت إليهما الرياسة في هذا العلم وأشير إليهما بالأصابع في علوّ السن ورؤية المشايخ وكثرة التلامذة وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد والوثوق بها، فقرأت عليهما وأخذت من كلّ واحد منهما حظا وافرا بعون الله وحسن توفيقه. وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي عنه، وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج بحقّ روايته عن ابن مقسم عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير. ثم فرغت للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله وكان حبر العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم. وله التفسير الملقب ب «الكشف والبيان عن تفسير القرآن» الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار:
فسار مسير الشمس في كلّ بلدة ... وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر
وأصفقت عليه كافّة الأمة على اختلاف نحلهم، وأقرّوا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وصحبه علم أنه منقطع القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته ليستدلّ بها أنه كان بحرا لا ينزف، وغمرا لا يسبر. وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء منها تفسيره الكبير وكتابه المعنون ب «الكامل في علم القرآن» وغيرهما.
ولو أثبتّ المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال الخطب، وملّ الناظر. وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدّني الله فيه بتوفيقه مشتمل على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، لا يدع لمن تأمله حارّة في صدره حتى يخرجه عن ظلمة الريب والتخمين، إلى نور العلم واليقين، هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضا في صنعة الأدب والنحو، مهتديا بطرق الحجاج، قارحا في سلوك المنهاج، فأما الجذع المرخى من المقتبسين، والريّض الكزّ «١» من المبتدئين، فإنه مع هذا الكتاب كمزاول غلقا ضاع