ودخلت عليه فوجدته شيخا كبيرا قضيف الجسم في حجرة من المسجد، وبين يديه جامدان مملوء كتبا من تصانيفه فحسب، فسلمت عليه وجلست بين يديه، فأقبل عليّ وقال: من أين أنت؟ قلت: من بغداد. فهشّ بي وأقبل يسائلني عنها وأخبره، ثم قلت له: إنما جئت لأقتبس من علوم المولى شيئا، فقال لي: وأيّ علم تحبّ؟ قلت له: أحبّ علوم الأدب، فقال: إن تصانيفي في الأدب كثيرة، وذاك أن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم وأشعارهم وبوّبوها، وأنا فكلّ ما عندي من نتائج أفكاري، وكنت كلما رأيت الناس مجمعين على استحسان كتاب في نوع من الآداب استعملت فكري وأنشأت من جنسه ما أدحض به المتقدم، فمن ذلك أن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته وأنا فعملت حماسة من أشعاري وبنات أفكاري (ثم سبع أبا تمام وشتمه) ، ثم رأيت الناس مجمعين على تفضيل أبي نواس في وصف الخمر، فعملت كتاب الخمريات من شعري، لو عاش أبو نواس لاستحيى أن يذكر شعر نفسه لو سمعها.
ورأيت الناس مجمعين على تفضيل خطب ابن نباتة، فصنفت كتاب الخطب فليس للناس اليوم اشتغال إلا بخطبي. وجعل يزري على المتقدمين ويصف ويجهّل الأوائل ويخاطبهم بالكلب، فعجبت منه وقلت له: فأنشدني شيئا مما قلت، فابتدأ وقرأ عليّ خطبة كتاب الخمريات، فعلق بخاطري من الخطبة قوله:«ولما رأيت الحكميّ قد أبدع ولم يدع لأحد في اتباعه مطمعا، وسلك في إفشاء سرّ صفات الخمرة [مهيعا] آثرت أن أجعل لها نصيبا من عنايتي مع ما أنني علم الله لم ألمم لها بلثم ثغر إثم، مذ رضعت ثدي أمّ» أو كما قال. ثم أنشدني من هذا الكتاب.
امزج بمسبوك اللجين ... ذهبا حكته دموع عيني
لما نعى ناعي الفرا ... ق ببين من أهوى وبيني
كانت ولم يقدر لشي ... ء قبلها إيجاب كون
وأحالها التشبيه لما شبّهت بدم الحسين ... خفقت لنا شمسان من