أبو محمد عزوف النفس بعيدا من الصبر على مثل هذه الأسباب، إلا أنه كان يتكلّف احتمالها لورودها من أبي الفرج، وكان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله أنه كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وأمثاله وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا، وكان يستعمله كثيرا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قائم من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلّا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية، فلما كثر على المهلبي استمرار ما قدّمنا ذكره جعل له مائدتين إحداهما كبيرة عامّة وأخرى لطيفة خاصة وكان يواكله عليها من يدعوه إليها.
قال مؤلف الكتاب: وقد ذكر مثل هذا عن أبي رياش أحمد بن إبراهيم اللغوي وقد ذكرناه في بابه.
قال هلال: وعلى صنع أبي محمد بأبي الفرج ما كان يصنعه فما خلا من هجوه، قال فيه «١» :
أبعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى فرميت بي من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أمّلت للإحسان غير الخالق
قال ابن الصابىء: وحدثني جدي أيضا قال: قصدت أنا وأبو علي الأنباري وأبو العلاء صاعد دار أبي الفرج لقضاء حقه وتعرّف خبره من شيء وجده، وموقعها على دجلة في المكان المتوسط بين درب سليمان ودرب دجلة وملاصقة لدار أبي الفتح البريدي، وصعد بعض غلماننا لإيذانه بحضورنا، فدقّ الباب دقا عنيفا حتى ضجر من الدقّ وضجرنا من الصبر، قال: وكان له سنّور أبيض يسميه يققا ومن رسمه إذا قرع الباب قارع أن يخرج ويصيح إلى أن يتبعه غلام أبي الفرج لفتح الباب، أو هو نفسه، فلم نر السنور في ذلك اليوم، فأنكرنا الأمر وازددنا تشوّقا إلى معرفة الخبر، فلما كان بعد أمد طويل صاح صائح أن «نعم» ، ثم خرج أبو الفرج ويده متلوثة بما ظنناه شيئا كان يأكله، فقلنا له: عققناك بأن قطعناك عما كان أهمّ من قصدنا إياك، فقال: لا